إن الفهم العميق لظواهر التضخم والانكماش والركود لم يعد ترفاً فكرياً، بل ضرورة ملحة. فهذه القوى ليست مجرد أرقام وإحصائيات، بل هي محركات أساسية تؤثر في قراراتنا الاستثمارية، في قدرتنا على الادخار، في فرص العمل المتاحة لأبنائنا، وفي استقرار مجتمعاتنا. لقد أصبحت المعرفة الاقتصادية، في هذا العصر المضطرب، بمثابة بوصلة لا غنى عنها للإبحار في خضم هذه التحديات. وهذا المقال يسعى، بأسلوب صحفي يغوص في عمق الأحداث ويستنطق الأرقام، إلى تشريح هذه المفاهيم الثلاثة، وتوضيح الفروق الجوهرية بينها، وكشف أسبابها، وتتبع آثارها على المواطن العربي وعلى اقتصادات المنطقة، مستنداً إلى أحدث البيانات والتحليلات المتاحة.
جدول المحتويات
- التضخم والانكماش والركود
- التضخم: الوحش الذي يلتهم القوة الشرائية – تشريح الصعود المتواصل وأصداؤه في العالم العربي
- الانكماش: الهدوء الخادع لسقوط الأسعار – ولماذا يخشاه الاقتصاديون أكثر من العاصفة
- الركود الاقتصادي: عندما يتوقف محرك النمو – وفواتير تدفعها الأجيال
- الرقصة المتشابكة: كواليس العلاقة المعقدة بين التضخم والانكماش والركود
- مقياس الاقتصاد العربي: قراءة في مؤشرات 2024 وتوقعات 2025 – من الرياض إلى الرباط
- تسليط الضوء على أسواق عربية رئيسية: نبض التضخم والنمو في عواصم القرار
- فك شفرة الطقس الاقتصادي – نحو قرارات مستنيرة في عالم عربي متغير
- الخلاصة
- الأسئلة الشائعة
التضخم والانكماش والركود
في صباح رمادي من أواخر عام 2024، جلس أحمد، صاحب مخبز صغير في أحد أحياء القاهرة المزدحمة، يتأمل فواتير الدقيق والسكر والزيت التي تضاعفت أرقامها خلال أشهر قليلة. لم يعد سعر رغيف الخبز الذي يبيعه بالكاد يغطي تكلفته، وزبائنه الدائمون بدأوا يقللون مشترياتهم. على بعد آلاف الكيلومترات، في الرياض، كانت سارة، الموظفة الشابة في شركة تسويق، تؤجل حلمها بشراء سيارة جديدة للمرة الثالثة؛ فالتزامات أسرتها المتزايدة وارتفاع تكاليف المعيشة جعلا من هذا الحلم ترفاً لا يمكن تحقيقه الآن.
وفي عمّان، كان خالد، المهندس حديث التخرج، يبحث عن فرصة عمل منذ شهور دون جدوى، فالشركات التي طرق بابها كانت إما تجمد التوظيف أو، في أسوأ الأحوال، تسرح موظفين.
هذه ليست مجرد حكايات فردية عابرة، بل هي لمحات من واقع اقتصادي معقد تعيشه ملايين الأسر العربية. إنها قصص من قلب عاصفة تشكلها قوى اقتصادية خفية، تبدو أحياناً غامضة ومجردة، لكن تأثيرها يطالنا جميعاً في صميم حياتنا اليومية.
نتحدث هنا عن التضخم والانكماش والركود – ثلاثة مصطلحات اقتصادية أصبحت تتردد على مسامعنا أكثر من أي وقت مضى، ولم تعد حبيسة أروقة الجامعات أو تقارير الخبراء، بل تحولت إلى حديث الساعة على موائد العشاء وفي نقاشات المقاهي. إنها القوى الفاعلة، “أبطال” روايتنا الاقتصادية، التي ترسم ملامح مستقبلنا المالي وتحدد قدرتنا على تحقيق طموحاتنا.
يشهد الاقتصاد العالمي، ومن ضمنه اقتصاداتنا العربية، تقلبات عنيفة منذ سنوات. فبعد التعافي المتعثر من جائحة كوفيد-19، أتت التوترات الجيوسياسية واضطرابات سلاسل الإمداد العالمية لتزيد الطين بلة.1 هذه الهزات الارتدادية لم تترك منطقة في العالم بمنأى عن تأثيرها، والعالم العربي، بتاريخه الاقتصادي المتنوع والمتشابك مع الأسواق العالمية، يجد نفسه في مواجهة تحديات جسيمة. فارتفاع أسعار الطاقة والغذاء عالمياً، على سبيل المثال، يلقي بظلاله الثقيلة على الدول المستوردة لهما، بينما تواجه الدول المصدرة تحديات أخرى تتعلق بإدارة ثرواتها في ظل تقلبات الأسواق.
التضخم: الوحش الذي يلتهم القوة الشرائية – تشريح الصعود المتواصل وأصداؤه في العالم العربي

عندما يتحدث الناس عن “غلاء المعيشة”، فإنهم في الغالب يشيرون إلى ظاهرة اقتصادية يعرفها الخبراء باسم “التضخم”. ببساطة، التضخم هو الارتفاع المستمر والملموس في المستوى العام لأسعار السلع والخدمات في اقتصاد ما على مدى فترة زمنية معينة.4 الكلمتان المفتاحيتان هنا هما “مستمر” و”عام”.
فارتفاع سعر سلعة واحدة بشكل مؤقت لا يعني بالضرورة وجود تضخم. أما عندما تصبح الزيادة في الأسعار شاملة ومستمرة، بحيث تشتري نفس كمية النقود سلعاً وخدمات أقل مما كانت تشتريه في السابق، فهذا هو التضخم بعينه.5 إنه أشبه بتسرب بطيء وغير مرئي في قيمة العملة، يتآكل مع مرور الوقت، ليجد المواطن أن مدخراته لم تعد تكفي لتلبية احتياجاته كما كانت.
لقياس هذا “الوحش” الذي يلتهم القوة الشرائية، يلجأ الاقتصاديون إلى أدوات إحصائية، أشهرها “مؤشر أسعار المستهلك” (CPI). يتتبع هذا المؤشر التغيرات في أسعار سلة محددة من السلع والخدمات التي يستهلكها المواطن العادي، مثل الغذاء، والسكن، والنقل، والرعاية الصحية، والتعليم، والترفيه.7 يتم اختيار مكونات هذه السلة بناءً على مسوحات إنفاق الأسر لتعكس أنماط الاستهلاك السائدة. على سبيل المثال، تتكون سلة مؤشر أسعار المستهلك في المملكة العربية السعودية من 490 بنداً تم اختيارها بناءً على نتائج مسح الإنفاق والدخل الذي أُجري عام 2018
يُحسب معدل التضخم عادة كنسبة مئوية للتغير في مستوى الأسعار بين فترتين زمنيتين، باستخدام الصيغة التالية:
معدل التضخم=مستوى الأسعار السابق(مستوى الأسعار الحالي−مستوى الأسعار السابق)×100
فإذا كان مستوى الأسعار (قيمة سلة السلع والخدمات) 100 وحدة نقدية في العام الماضي وأصبح 105 وحدات هذا العام، فإن معدل التضخم السنوي يكون 5%.
لكن هنا تكمن إحدى نقاط الجدل التي قد لا تظهر في العناوين الرئيسية: هل تعكس هذه “السلة” حقاً واقع معيشة جميع شرائح المجتمع؟ فأنماط الإنفاق تختلف بشكل كبير بين الأغنياء والفقراء، بين سكان المدن وسكان الأرياف. الأسر ذات الدخل المحدود، على سبيل المثال، تنفق نسبة أكبر من دخلها على الضروريات الأساسية كالغذاء والإيجار.
فإذا ارتفعت أسعار هذه الضروريات بشكل حاد، فإن معدل التضخم “الرسمي” قد لا يعكس بدقة حجم الضغط الذي تشعر به هذه الأسر. هذا التباين بين الأرقام الرسمية والواقع المعاش يمثل تحدياً دائماً لصناع السياسات ويثير تساؤلات حول عدالة توزيع الأعباء الاقتصادية.
المشتبه بهم المعتادون: كشف القناع عن محركات ارتفاع الأسعار
وراء كل ارتفاع في الأسعار، هناك قوى دافعة، “مشتبه بهم معتادون” يعملون في الخفاء أحياناً وفي العلن أحياناً أخرى. فهم هذه القوى يساعدنا على فهم طبيعة التضخم الذي نواجهه وكيفية التعامل معه.
تضخم سحب الطلب (Demand-Pull Inflation):
تخيل أن هناك كمية محدودة من سلعة مرغوبة، وفجأة يزداد عدد الراغبين في شرائها بشكل كبير. ماذا يحدث للسعر؟ يرتفع. هذا هو جوهر تضخم سحب الطلب. يحدث عندما يفوق الطلب الكلي على السلع والخدمات (من المستهلكين، الشركات، أو الحكومة) قدرة الاقتصاد على إنتاجها وتوفيرها.
هذا السيناريو غالباً ما يظهر في فترات الانتعاش الاقتصادي القوي، أو عندما تضخ الحكومات أموالاً كبيرة في الاقتصاد لتحفيزه، مما يزيد من قدرة الناس على الإنفاق دون أن يقابل ذلك زيادة موازية في المعروض من السلع والخدمات.
تضخم دفع التكلفة (Cost-Push Inflation):
هنا، المشكلة لا تكمن في زيادة الطلب، بل في ارتفاع تكاليف الإنتاج نفسها. عندما ترتفع أسعار مدخلات الإنتاج الأساسية مثل المواد الخام (كالنفط والمعادن)، أو أجور العمال، أو تكاليف الطاقة، فإن الشركات تجد نفسها مضطرة لرفع أسعار منتجاتها النهائية للحفاظ على هوامش أرباحها.
هذه الزيادة في التكاليف “تُدفع” إلى المستهلك في شكل أسعار أعلى. وقد شهدت العديد من الدول العربية، خاصة المستوردة للطاقة والمواد الغذائية، هذا النوع من التضخم بشكل واضح عندما ارتفعت الأسعار العالمية لهذه السلع الأساسية
التوسع النقدي (Monetary Expansion/Inflation):
أحد الأسباب الكلاسيكية للتضخم هو زيادة كمية النقود المتداولة في الاقتصاد بشكل أسرع من نمو الإنتاج الحقيقي للسلع والخدمات. إذا طبع البنك المركزي المزيد من النقود دون أن يقابل ذلك زيادة في الثروة الحقيقية للمجتمع، فإن قيمة كل وحدة نقدية تنخفض، وبالتالي ترتفع الأسعار. الأمر يشبه إضافة المزيد من الماء إلى كوب من العصير المركز؛ يصبح العصير أقل تركيزاً وأقل قيمة.
التوقعات التضخمية (Inflationary Expectations):
هذا العامل نفسي بالدرجة الأولى، لكن تأثيره اقتصادي بحت. إذا توقع الناس (مستهلكون وعمال وشركات) أن الأسعار سترتفع في المستقبل، فإنهم قد يغيرون سلوكهم اليوم.
العمال قد يطالبون بأجور أعلى تحسباً لغلاء المعيشة القادم، والشركات قد ترفع أسعارها مقدماً، والمستهلكون قد يسارعون بشراء السلع قبل أن يرتفع سعرها. هذا السلوك، بحد ذاته، يمكن أن يؤدي إلى تحقيق هذه التوقعات، مما يخلق ما يشبه “النبوءة ذاتية التحقق”.
العوامل الخارجية/العالمية (External/Global Factors):
في عالم اليوم المترابط، لا يمكن لأي اقتصاد أن يعيش بمعزل عن التأثيرات العالمية. فالتضخم يمكن أن يكون “مستورداً” عندما ترتفع أسعار السلع التي تستوردها دولة ما من الخارج.3 كما أن اضطرابات سلاسل الإمداد العالمية، مثل تلك التي شهدناها خلال جائحة كورونا أو بسبب النزاعات الدولية، يمكن أن تؤدي إلى نقص في السلع وارتفاع تكاليف الشحن، مما يساهم في الضغوط التضخمية.
في العديد من الاقتصادات العربية، خاصة تلك التي تعتمد بشكل كبير على استيراد احتياجاتها الأساسية من الغذاء والسلع المصنعة، يلعب “التضخم المستورد” دوراً محورياً وأحياناً يكون أكثر تأثيراً من العوامل الداخلية.
هذا يضع صناع السياسات في موقف صعب، حيث تكون قدرتهم على التحكم في هذه العوامل الخارجية محدودة للغاية. فالبنك المركزي قد يتمكن من التأثير على الطلب المحلي من خلال رفع أسعار الفائدة، لكنه لا يملك السيطرة على سعر القمح في السوق العالمية أو تكلفة شحن الحاويات من الصين. هذه المعضلة تمثل تحدياً فريداً يتطلب حلولاً مبتكرة واستراتيجيات طويلة الأمد لتعزيز الأمن الغذائي وتنويع مصادر الدخل.
كما أن التفاعل بين “تضخم دفع التكلفة” و”التوقعات التضخمية” يمكن أن يخلق حلقة مفرغة خطيرة تُعرف بـ “دوامة الأجور والأسعار”. فعندما ترتفع تكاليف المعيشة، يطالب العمال بأجور أعلى. وإذا استجابت الشركات لهذه المطالب، فإن تكاليف إنتاجها ترتفع مجدداً، مما يدفعها لرفع الأسعار مرة أخرى، وهكذا دواليك. كسر هذه الدوامة يتطلب قرارات صعبة وحكمة بالغة من جانب صناع السياسات، الذين يجدون أنفسهم في اجتماعات مغلقة يناقشون الخيارات المتاحة، وكل خيار يحمل في طياته تكلفة ما.
من الهمس إلى الزئير: طيف التضخم وأنواعه
لا يأتي التضخم بدرجة واحدة من الحدة؛ بل هو طيف واسع يمتد من الهمس الخافت الذي بالكاد يُسمع، إلى الزئير المدوي الذي يهز أركان الاقتصاد. فهم هذه الأنواع المختلفة يساعد على تقييم مدى خطورة الوضع.
- التضخم البطيء أو الزاحف (Creeping/Mild Inflation): هو ارتفاع معتدل في الأسعار، عادة ما يكون في حدود 1% إلى 3% سنوياً.10 بعض الاقتصاديين يعتبرون هذا النوع من التضخم صحياً للاقتصاد، لأنه يشجع المستهلكين على الشراء بدلاً من تأجيله (تحسباً لارتفاع طفيف في الأسعار)، مما يحفز الطلب والنمو الاقتصادي. مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، على سبيل المثال، يستهدف معدل تضخم حول 2% كدليل على صحة الاقتصاد.
- التضخم المتسارع أو المتنقل (Walking/Accelerating Inflation): هنا تبدأ الأسعار في الارتفاع بوتيرة أسرع، عادة ما بين 3% إلى 10% سنوياً. في هذه المرحلة، يبدأ المستهلكون في الشعور بالقلق من ارتفاع الأسعار في المستقبل، فيزيدون من مشترياتهم الحالية لتجنب دفع المزيد لاحقاً. هذا السلوك يمكن أن يزيد الضغط على المعروض من السلع والخدمات، وقد تبدأ الأجور في محاولة اللحاق بالأسعار، مما قد يضر بالاقتصاد إذا تسارعت وتيرته بشكل كبير.12
- التضخم الجامح (Galloping/Runaway Inflation): عندما يتجاوز معدل التضخم 10% سنوياً ويدخل في خانة العشرات أو حتى المئات، تبدأ الفوضى الاقتصادية الحقيقية.12 النقود تفقد قيمتها بسرعة كبيرة، وتتآكل المدخرات، ويصبح من الصعب على الناس تلبية احتياجاتهم الأساسية لأن دخولهم لا تواكب الارتفاع الجنوني في الأسعار.6 يفقد المستثمرون الأجانب الثقة في الاقتصاد ويتجنبونه، وقد تهتز الثقة في القيادة السياسية. يجب منع الوصول إلى هذه المرحلة بأي ثمن.12
- التضخم المفرط (Hyperinflation): هذه هي الحالة القصوى والأكثر تدميراً للتضخم، وهي نادرة الحدوث نسبياً. نتحدث هنا عن ارتفاع الأسعار بمعدلات فلكية، قد تتجاوز 50% شهرياً.12 في مثل هذه الحالات، تنهار العملة الوطنية تماماً وتفقد وظيفتها كوسيط للتبادل ومخزن للقيمة.11 الأمثلة التاريخية الشهيرة تشمل ألمانيا في عشرينيات القرن الماضي، وزيمبابوي في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وفنزويلا مؤخراً.
إن الانتقال من مرحلة “التضخم المتسارع” إلى “التضخم الجامح” يمكن أن يحدث بسرعة مفاجئة إذا تدهورت ثقة الجمهور في العملة أو في قدرة الحكومة على إدارة الاقتصاد. هذا “المنعطف الحرج” هو ما يقلق البنوك المركزية وصناع السياسات أكثر من أي شيء آخر. فالأمر لا يتعلق فقط بالأرقام، بل بعلم النفس الجماعي وسرعة تغير التوقعات. إنها اللحظة التي يدرك فيها المسؤولون أن الأمور تتسارع بشكل يفوق توقعاتهم، وأن الأدوات التقليدية قد لا تكون كافية لاحتواء الموقف.
الفاتورة الإنسانية: التكلفة الحقيقية للتضخم على الأسر والاقتصادات العربية
بعيداً عن النماذج الاقتصادية المعقدة، للتضخم فاتورة إنسانية باهظة يدفعها المواطنون العاديون والشركات، وتلقي بظلالها على طموحات الدول.
- تآكل القوة الشرائية: هذا هو الأثر الأكثر مباشرة وضوحاً. فمع ارتفاع الأسعار، تصبح كل وحدة نقدية تملكها قادرة على شراء كمية أقل من السلع والخدمات.6 ويعاني من هذا التآكل بشكل خاص أصحاب الدخول الثابتة (كالموظفين والمتقاعدين) والفئات الفقيرة التي تنفق الجزء الأكبر من دخلها على الضروريات التي لا يمكن الاستغناء عنها كالغذاء والوقود.9
- التأثير على الادخار والاستثمار: عندما تفقد النقود قيمتها بسرعة، يقل الحافز للادخار. فالأموال المودعة في البنك اليوم قد تشتري أقل بكثير في الغد.6 كما أن التضخم يخلق حالة من عدم اليقين تجعل الشركات تتردد في القيام باستثمارات طويلة الأجل، لصعوبة التنبؤ بالتكاليف والإيرادات المستقبلية.9
- إعادة توزيع الدخل والثروة: التضخم يمكن أن يعيد توزيع الثروة بشكل غير عادل. فهو يفيد المدينين، الذين يسددون ديونهم بأموال أقل قيمة مما اقترضوها.9 وفي المقابل، يضر بالدائنين وأصحاب المدخرات الذين يرون قيمة أصولهم تتآكل. هذا يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الفجوات الاجتماعية والاقتصادية.
- التأثير على القدرة التنافسية للصادرات: إذا ارتفعت الأسعار المحلية بشكل كبير، فإن منتجات الدولة تصبح أكثر تكلفة في الأسواق العالمية، مما يقلل من قدرتها على المنافسة ويؤثر سلباً على الميزان التجاري.11
- الاضطراب الاجتماعي والسياسي: تاريخياً، ارتبطت معدلات التضخم المرتفعة بزيادة السخط الشعبي والاضطرابات الاجتماعية. فعندما يجد الناس صعوبة في تأمين احتياجاتهم الأساسية، قد يلجأون إلى الاحتجاج للمطالبة بتحسين أوضاعهم المعيشية، كما شهدنا في بعض المناطق العربية بسبب غلاء المعيشة.13
- التأثير على الشركات الصغيرة والمتوسطة: هذه الشركات، التي تشكل عصب الكثير من الاقتصادات العربية وتوفر العديد من فرص العمل، تجد نفسها في وضع حرج خلال فترات التضخم. فهي تواجه ارتفاعاً في تكاليف المواد الأولية وأجور العمال، وفي نفس الوقت قد تجد صعوبة في تمرير هذه الزيادات بالكامل إلى المستهلكين بسبب المنافسة الشديدة أو حساسية الأسعار لدى الزبائن.
- هذا “الضغط المزدوج” يمكن أن يخنق نموها وابتكارها، بل وقد يؤدي إلى إغلاق بعضها، مما يؤثر سلباً على خلق فرص العمل والتنويع الاقتصادي الذي تسعى إليه العديد من الدول العربية.15
وفي الدول العربية التي تتميز بنسب عالية من الشباب وتحديات قائمة في مجال التوظيف 17، يمكن للتضخم المرتفع أن يؤثر بشكل غير متناسب على قدرة الشباب على تحقيق الاستقلال المالي، وتحمل تكاليف السكن، وتكوين أسر.
فالشباب غالباً ما يبدأون حياتهم المهنية بأجور منخفضة أو ثابتة، والتضخم يلتهم قيمة هذه الأجور بسرعة، مما يجعل تحقيق الأهداف الحياتية الأساسية مثل الزواج أو امتلاك منزل أمراً أكثر صعوبة. هذه ليست مجرد قضية اقتصادية، بل هي قضية مجتمعية ذات تداعيات ديموغرافية واجتماعية طويلة الأمد قد تؤثر على النسيج الاجتماعي والتنمية المستدامة في المنطقة.
الانكماش: الهدوء الخادع لسقوط الأسعار – ولماذا يخشاه الاقتصاديون أكثر من العاصفة

إذا كان التضخم هو ارتفاع الأسعار، فإن الانكماش هو الوجه الآخر للعملة: إنه الانخفاض المستمر والملموس في المستوى العام لأسعار السلع والخدمات، أي عندما يصبح معدل التضخم أقل من الصفر.19
للوهلة الأولى، قد يبدو انخفاض الأسعار أمراً جيداً للمستهلكين. فمن منا لا يرغب في شراء المزيد بنفس كمية النقود؟.19 لكن الحقيقة الاقتصادية أكثر تعقيداً، فالانكماش، رغم جاذبيته الظاهرية، غالباً ما يكون عرضاً لمشاكل اقتصادية أعمق وأكثر خطورة، ويخشاه الاقتصاديون وصناع السياسات ربما أكثر من التضخم المعتدل.
من المهم التمييز بين الانكماش (Deflation) وتباطؤ التضخم (Disinflation). تباطؤ التضخم يعني أن الأسعار لا تزال ترتفع، ولكن بوتيرة أبطأ من السابق (مثلاً، انخفاض معدل التضخم من 5% إلى 2%). أما الانكماش، فهو انخفاض فعلي في مستوى الأسعار.
يمكن تشبيه الانكماش بالشتاء الاقتصادي القارس: كل شيء يصبح أرخص، ولكن النشاط الاقتصادي يتجمد، والبرودة تتسرب إلى كل زاوية من زوايا الاقتصاد، من المصانع إلى المتاجر إلى جيوب المواطنين. غالباً ما يخلط الجمهور بين انخفاض الأسعار كظاهرة فردية إيجابية، وبين الانكماش كظاهرة اقتصادية كلية قد تكون مدمرة. وهنا يكمن التحدي في شرح لماذا يخشى الاقتصاديون هذا “الهدوء الخادع” لسقوط الأسعار، وكيف يمكن لـ “الأرخص” أن يكون أسوأ بكثير.
الدوامة الهابطة: لماذا “الأرخص” ليس دائماً الأفضل – الأسباب والآثار المدمرة
يكمن خطر الانكماش في أنه يمكن أن يدخل الاقتصاد في “دوامة هابطة” يصعب الخروج منها. وتتعدد الأسباب التي قد تؤدي إلى هذه الظاهرة، كما أن آثارها يمكن أن تكون مدمرة.
أسباب الانكماش:
- انخفاض الطلب الكلي (Decreased Aggregate Demand): هذا هو السبب الأكثر شيوعاً. عندما يقلل المستهلكون والشركات من إنفاقهم بشكل كبير، ربما بسبب التشاؤم بشأن المستقبل الاقتصادي أو توقعهم أن الأسعار ستنخفض أكثر، فإن الطلب على السلع والخدمات يتراجع.5 هذا النقص في الطلب يجبر الشركات على خفض أسعارها لجذب المشترين.
- زيادة الإنتاجية بشكل كبير (Significant Productivity Increases): نظرياً، إذا أدت التطورات التكنولوجية إلى زيادة هائلة في الإنتاجية وخفض تكاليف الإنتاج بشكل كبير، ولم يقابل ذلك زيادة موازية في الطلب، فقد تنخفض الأسعار. ومع ذلك، هذا النوع من الانكماش “الحميد” نادر نسبياً كسبب رئيسي للانكماش الضار.
- السياسات النقدية المتشددة (Tight Monetary Policy): إذا قام البنك المركزي برفع أسعار الفائدة بشكل كبير أو قلص المعروض النقدي بشكل حاد، فقد يؤدي ذلك إلى تراجع الطلب والانفاق، وبالتالي انخفاض الأسعار.5
- زيادة العرض على الطلب (Supply Outstripping Demand): عندما يكون هناك فائض كبير في المعروض من السلع والخدمات مقارنة بالطلب عليها، تضطر الشركات إلى خفض الأسعار لبيع منتجاتها.5
آثار الانكماش – الدوامة الانكماشية:
بمجرد أن يبدأ الانكماش، يمكن أن يغذي نفسه من خلال سلسلة من ردود الفعل السلبية:
- تأجيل الإنفاق (Delayed Spending): لماذا تشتري اليوم ما يمكنك شراؤه بسعر أرخص غداً؟ هذا هو المنطق الذي يسود في بيئة انكماشية. يؤجل المستهلكون والشركات قرارات الشراء والاستثمار، متوقعين انخفاضات إضافية في الأسعار.5 هذا يؤدي إلى مزيد من الانخفاض في الطلب.
- انخفاض أرباح الشركات (Reduced Corporate Profits): مع انخفاض الأسعار وتراجع الطلب، تنخفض إيرادات وأرباح الشركات. هذا يدفعها إلى تقليل التكاليف، غالباً عن طريق خفض الأجور أو تسريح العمال.20
- ارتفاع عبء الديون الحقيقي (Increased Real Debt Burden): هذه من أخطر عواقب الانكماش. إذا اقترضت مبلغاً من المال ثم انخفضت الأسعار، فإن قيمة المال الذي يجب عليك سداده تزداد فعلياً. يصبح الدين أثقل، ويزداد خطر التخلف عن السداد والإفلاس، سواء للأفراد أو الشركات أو حتى الحكومات.21 هذا الأمر بالغ الخطورة بشكل خاص للاقتصادات العربية التي تعاني أصلاً من مستويات ديون مرتفعة، سواء كانت ديوناً سيادية أو ديوناً على الشركات. فالانكماش هنا، وبشكل متناقض، يؤدي إلى ضائقة مالية أكبر للمدينين.
- انخفاض الاستثمار (Reduced Investment): في ظل اقتصاد متقلص وتوقعات سلبية، تتردد الشركات في القيام باستثمارات جديدة أو توسيع عملياتها القائمة.21
- ارتفاع البطالة (Higher Unemployment): نتيجة لخفض الإنتاج وتسريح العمال، ترتفع معدلات البطالة، مما يزيد من تراجع الطلب ويفاقم الدوامة الانكماشية.21
إن العنصر النفسي في الانكماش – أي توقعات المستهلكين والشركات باستمرار انخفاض الأسعار – هو ما يجعله تحدياً صعباً للغاية بالنسبة لصناع السياسات. فبمجرد أن تترسخ هذه العقلية الانكماشية، يصبح من الصعب جداً عكسها.5 الأدوات التقليدية للسياسة النقدية، مثل خفض أسعار الفائدة، قد تصبح غير فعالة إذا كان الجميع متشائماً لدرجة أنه لا يرغب في الاقتراض أو الإنفاق، حتى لو كانت تكلفة الاقتراض منخفضة. هذا ما يُعرف بـ “فخ السيولة”، وهو كابوس يخشاه كل محافظ بنك مركزي.
الركود الاقتصادي: عندما يتوقف محرك النمو – وفواتير تدفعها الأجيال

الفرق بين التضخم الاقتصادي والركود الاقتصادي يتضح في إذا كان التضخم هو ارتفاع حرارة الاقتصاد والانكماش هو برودته القاتلة، فإن الركود الاقتصادي هو اللحظة التي يبدأ فيها محرك النمو بالاختناق والتوقف. يُعرَّف الركود بأنه انخفاض كبير وواسع النطاق وطويل الأمد في النشاط الاقتصادي.23 التعريف الأكثر شيوعاً، وإن كان مبسطاً، هو تسجيل نمو سلبي في الناتج المحلي الإجمالي (GDP) لربعين متتاليين. لكن الهيئات الرسمية التي تحدد فترات الركود، مثل المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية (NBER) في الولايات المتحدة، تأخذ في الاعتبار مجموعة أوسع من المؤشرات.
تشمل هذه المؤشرات الرئيسية، بالإضافة إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي، ارتفاع معدلات البطالة، وتراجع الدخل الحقيقي للأفراد، وانخفاض مبيعات التجزئة، وتقلص الإنتاج الصناعي.24 الركود ليس مجرد أداء سيء للاقتصاد في ربع سنة واحد؛ بل هو حالة مرضية أعمق، حيث تبدأ الآلة الاقتصادية لدولة بأكملها في التعثر، وتدق أجراس الإنذار في مجالس إدارات الشركات والمكاتب الحكومية على حد سواء.
من المهم الإشارة إلى أن “التعريف الفني” للركود بناءً على ربعين متتاليين من النمو السلبي للناتج المحلي الإجمالي قد يأتي متأخراً عن الشعور الفعلي بالركود لدى المواطنين العاديين والشركات. فالناس قد يبدأون في الشعور بوطأة الأزمة – من خلال فقدان الوظائف، أو تراجع المبيعات، أو صعوبة الحصول على الائتمان – قبل أن تعلن الإحصاءات الرسمية دخول الاقتصاد في حالة ركود.29 هذا الفارق الزمني بين الإعلان الإحصائي والواقع المعاش يمكن أن يكون مصدراً للإحباط العام وعدم الثقة في البيانات الرسمية.
نقاط الانهيار: محفزات الانكماش الاقتصادي
لا يحدث الركود الاقتصادي من فراغ؛ بل هناك عادة “نقاط انهيار” أو محفزات تدفع الاقتصاد إلى هذا المسار الانكماشي. فهم هذه المحفزات يساعد على استشراف المخاطر واتخاذ الإجراءات الوقائية.
الصدمات الاقتصادية المفاجئة (Sudden Economic Shocks):
هذه أحداث غير متوقعة تهز أسس الاقتصاد. يمكن أن تكون أزمات مالية حادة، مثل الأزمة المالية العالمية عام 2008 التي بدأت بأزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة 24، أو صدمات في أسعار سلع استراتيجية كالنفط 31، أو حتى أوبئة عالمية مثل جائحة كوفيد-19 التي شلت قطاعات واسعة من الاقتصاد العالمي.25
بالنسبة للعديد من الاقتصادات العربية، خاصة تلك التي تعتمد بشكل كبير على عائدات النفط (مثل دول الخليج) أو قطاع السياحة (مثل مصر والأردن والمغرب)، فإن الصدمات الخارجية من هذا النوع يمكن أن تكون المحفز الرئيسي لدخولها في ركود، مما يسلط الضوء على هشاشتها أمام الدورات والأحداث العالمية التي تقع خارج سيطرتها المباشرة.24
فقدان الثقة (Loss of Confidence):
عندما يفقد المستهلكون والشركات الثقة في مستقبل الاقتصاد، فإنهم يميلون إلى تقليل الإنفاق والاستثمار.7 هذا التراجع في الثقة يمكن أن يكون نتيجة لأخبار اقتصادية سيئة، أو عدم استقرار سياسي، أو حتى مجرد شعور عام بالتشاؤم.
ارتفاع أسعار الفائدة (High Interest Rates):
في محاولة لمكافحة التضخم المرتفع، قد تلجأ البنوك المركزية إلى رفع أسعار الفائدة بشكل كبير. وفي حين أن هذا الإجراء يهدف إلى “تبريد” الاقتصاد وتقليل الطلب، إلا أنه إذا تم بشكل مبالغ فيه أو في توقيت خاطئ، فإنه يمكن أن يبطئ النشاط الاقتصادي لدرجة دفعه إلى الركود.5 هذا يوضح المعضلة الدقيقة التي يواجهها محافظو البنوك المركزية: محاربة التضخم دون التسبب في ركود، وهو قرار محفوف بالمخاطر ويتخذ في ظل معلومات غير كاملة.
انخفاض الطلب الكلي (Falling Aggregate Demand):
لأي سبب من الأسباب المذكورة أعلاه أو غيرها، إذا انخفض الطلب الإجمالي في الاقتصاد بشكل حاد ومستمر، فإن الشركات ستضطر إلى تقليل إنتاجها وتسريح العمال، مما يؤدي إلى الركود.7
الاضطرابات الجيوسياسية (Geopolitical Instability):
الحروب والنزاعات التجارية والأزمات السياسية الكبرى يمكن أن تؤثر بشكل كبير على الاستقرار الاقتصادي، وتؤدي إلى انخفاض التجارة العالمية والاستثمارات، وبالتالي قد تساهم في حدوث ركود.24
انخفاض الإنفاق الحكومي (Reduced Government Spending):
إذا قررت الحكومة فجأة تقليص إنفاقها بشكل كبير، ربما بسبب سياسات التقشف أو لمحاولة خفض العجز المالي، فإن ذلك يمكن أن يؤدي إلى تراجع في الأنشطة الاقتصادية، خاصة إذا كان الإنفاق الحكومي يشكل جزءاً كبيراً من الطلب الكلي.7
الاستعداد للصدمة: تداعيات الركود على الوظائف والشركات والطموحات الوطنية
عندما يضرب الركود، فإن آثاره تتجاوز بكثير مجرد أرقام الناتج المحلي الإجمالي. إنه يترك بصمات عميقة على حياة الناس ومستقبل الشركات وطموحات الدول.
- ارتفاع معدلات البطالة: هذا هو الأثر الأكثر إيلاماً ووضوحاً للركود. فمع تراجع الطلب وانخفاض الأرباح، تضطر الشركات إلى تقليل التوظيف، أو تجميده، أو حتى تسريح العمال لخفض التكاليف.24 ملايين الأفراد قد يفقدون وظائفهم ومصدر رزقهم، مما يؤدي إلى صعوبات مالية كبيرة للأسر.
- انخفاض الدخل والثروة: حتى أولئك الذين يحتفظون بوظائفهم قد يشهدون انخفاضاً في دخولهم، إما بسبب تقليص ساعات العمل أو تجميد الأجور أو إلغاء المكافآت.27 كما أن أسعار الأصول، مثل الأسهم والعقارات، تميل إلى الانخفاض خلال فترات الركود، مما يؤدي إلى تآكل ثروات الأفراد والمؤسسات.2
- إفلاس الشركات: العديد من الشركات، وخاصة الصغيرة والمتوسطة التي قد لا تملك احتياطيات مالية كبيرة، تجد صعوبة في البقاء خلال فترات الركود الطويلة. انخفاض المبيعات وصعوبة الحصول على الائتمان يمكن أن يؤديا إلى إفلاسها وخروجها من السوق.11
- انخفاض الإنفاق الاستهلاكي والاستثماري: بسبب حالة عدم اليقين المالي والخوف من المستقبل، يصبح المستهلكون أكثر حذراً في إنفاقهم، ويركزون على الضروريات. كما تتردد الشركات في القيام باستثمارات جديدة أو توسيع عملياتها.22
- زيادة الاقتراض الحكومي: خلال فترات الركود، تنخفض الإيرادات الضريبية للحكومة (بسبب انخفاض الأرباح والدخول والإنفاق)، بينما تزداد الحاجة إلى الإنفاق على برامج الدعم الاجتماعي لمساعدة العاطلين عن العمل والمتضررين. هذا غالباً ما يؤدي إلى ارتفاع العجز في الموازنة وزيادة الدين العام.27
- التأثير على الشباب وسوق العمل: الركود يمكن أن يكون له “أثر ندبة” طويل الأمد على الآفاق المهنية للشباب الذين يدخلون سوق العمل خلال فترة الانكماش.27 قد يجدون صعوبة كبيرة في الحصول على وظيفتهم الأولى، وإذا طالت فترة بطالتهم، فقد يفقدون جزءاً من مهاراتهم أو يصبحون أقل جاذبية لأصحاب العمل في المستقبل. هذا يمكن أن يؤدي إلى جيل يعاني من انخفاض في الدخل والأمان الوظيفي على مدى حياته المهنية، وهو مصدر قلق كبير للدول العربية التي لديها نسبة عالية من الشباب في مجتمعاتها.32
- التأثير على المغتربين والعمالة الوافدة: في الدول العربية التي تعتمد بشكل كبير على العمالة الوافدة، مثل دول الخليج، يمكن أن يؤدي الركود إلى فقدان أعداد كبيرة من هؤلاء العمال لوظائفهم.33
- هذا لا يؤثر فقط على حياتهم وعلى التحويلات المالية التي يرسلونها إلى بلدانهم الأصلية (والتي تعتمد عليها اقتصادات تلك البلدان بشكل كبير)، بل يؤثر أيضاً على الاقتصاد المضيف من خلال انخفاض الطلب الكلي والحاجة المفاجئة إلى شغل الوظائف التي كانوا يشغلونها بمواطنين قد لا يكونون مستعدين أو راغبين في القيام بها بنفس الشروط. هذه ديناميكية معقدة ذات تداعيات إقليمية واسعة.34
الرقصة المتشابكة: كواليس العلاقة المعقدة بين التضخم والانكماش والركود
لا توجد هذه الظواهر الاقتصادية الثلاث – التضخم والانكماش والركود – في فراغ. بل هي غالباً ما تتفاعل وتتشابك بطرق معقدة، وأحياناً خطيرة، مما يضع تحديات هائلة أمام صناع السياسات.
الركود التضخمي: الكابوس الذي يؤرق صناع السياسات
تخيل سيناريو يجتمع فيه أسوأ ما في العالمين: اقتصاد يعاني من تباطؤ النمو وارتفاع معدلات البطالة (ركود)، وفي نفس الوقت ترتفع فيه الأسعار بشكل كبير (تضخم). هذا المزيج السام يُعرف باسم “الركود التضخمي” (Stagflation)، وهو يمثل كابوساً حقيقياً لصناع السياسات.12
لماذا هو كابوس؟ لأن الأدوات التقليدية للسياسة الاقتصادية تصبح شبه عاجزة أمامه. فالإجراءات التي تُتخذ عادة لمكافحة التضخم (مثل رفع أسعار الفائدة لتقليل الطلب) يمكن أن تؤدي إلى تفاقم الركود وزيادة البطالة. وعلى العكس، فإن الإجراءات التي تُتخذ لتحفيز النمو والخروج من الركود (مثل خفض أسعار الفائدة أو زيادة الإنفاق الحكومي لزيادة الطلب) يمكن أن تؤدي إلى مزيد من الارتفاع في معدلات التضخم.7
يصبح صناع السياسات في وضع أشبه بمن يسير على حبل مشدود فوق وادٍ سحيق، حيث كل حركة خاطئة قد تؤدي إلى كارثة. تاريخياً، شهدت الولايات المتحدة ودول أخرى فترات من الركود التضخمي في سبعينيات القرن الماضي، ارتبطت بارتفاع أسعار النفط وصدمات العرض الأخرى.12
يزداد خطر الوقوع في فخ الركود التضخمي بشكل خاص بالنسبة للاقتصادات العربية المعتمدة على الاستيراد، عندما تتزامن صدمات العرض العالمية (مثل الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة أو الغذاء عالمياً) مع ضعف هيكلي في النمو المحلي أو ضغوط تضخمية قائمة أصلاً. في مثل هذه الحالة، تجد الدولة نفسها محاصرة بين مطرقة ارتفاع تكاليف الاستيراد وسندان تباطؤ النشاط الاقتصادي الداخلي، مما يفاقم من هشاشتها الاقتصادية والاجتماعية.
الانزلاق المحفوف بالمخاطر: من الركود العميق إلى قبضة الانكماش
في بعض الحالات يظهر الفرق بين الكساد والركود، يمكن للركود الاقتصادي الشديد أو الطويل الأمد أن يتحول إلى انكماش. إذا انهار الطلب الكلي بشكل كبير ومستمر، فإن الشركات، في محاولة يائسة لبيع منتجاتها وتصريف مخزونها، قد تضطر إلى خفض الأسعار بشكل متكرر وحاد.7 وإذا ترسخت توقعات بانخفاض الأسعار لدى المستهلكين والشركات، فقد يدخل الاقتصاد في دوامة انكماشية، حيث يؤدي انخفاض الأسعار إلى تأجيل الإنفاق، مما يؤدي إلى مزيد من انخفاض الأسعار، وهكذا.
هذا السيناريو – الانزلاق من ركود عميق إلى انكماش – هو أحد أسوأ الكوابيس بالنسبة للبنوك المركزية. فالانكماش، كما رأينا، أصعب بكثير في التعامل معه من التضخم المعتدل. والخوف من هذا الانزلاق هو أحد الأسباب الرئيسية التي تجعل البنوك المركزية في الاقتصادات المتقدمة تبدي تسامحاً نسبياً مع معدلات تضخم معتدلة، مفضلة إياها على خطر الوقوع في براثن الانكماش.
هذا الحساب الدقيق للتوازنات قد يختلف في بعض الاقتصادات العربية التي لديها تاريخ من معدلات التضخم المرتفعة، حيث قد تكون الأولوية القصوى هي كبح جماح الأسعار حتى لو كان ذلك على حساب تباطؤ النمو مؤقتاً.
التضخم مقابل الانكماش مقابل الركود: لقطة مقارنة في غرفة العمليات الاقتصادية
لتوضيح الفروق الجوهرية بين هذه الظواهر الثلاث، نقدم الجدول التالي الذي يلخص أهم سماتها وتأثيراتها، وكأنه لقطة سريعة من داخل غرفة عمليات اقتصادية حيث يتم تشخيص حالة الاقتصاد واتخاذ القرارات الحاسمة:
السمة | التضخم (Inflation) | الانكماش (Deflation) | الركود (Recession) |
التعريف الأساسي | ارتفاع مستمر في المستوى العام للأسعار | انخفاض مستمر في المستوى العام للأسعار | انخفاض كبير وواسع النطاق في النشاط الاقتصادي |
اتجاه الأسعار | ارتفاع | انخفاض | قد تنخفض أو تستقر، أو ترتفع (في حالة الركود التضخمي) |
النمو الاقتصادي | قد يكون مرتفعاً (تضخم طلب) أو منخفضاً (تضخم تكلفة) | منخفض جداً أو سلبي | سلبي أو منخفض جداً |
معدل البطالة | قد ينخفض (طلب قوي) أو يرتفع (صدمة عرض/ركود تضخمي) | مرتفع ويميل للزيادة | مرتفع ويميل للزيادة |
إنفاق المستهلكين | قد يزيد (شراء تحسباً لارتفاع الأسعار) أو يقل (تآكل الدخل) | منخفض جداً (تأجيل الشراء) | منخفض |
استثمار الشركات | غير مؤكد، يعتمد على الثقة وتكاليف الاقتراض | منخفض جداً (توقعات سلبية) | منخفض |
القوة الشرائية | تنخفض | تزداد (نظرياً)، لكن الدخل قد ينخفض | تنخفض (بسبب البطالة أو انخفاض الدخل) |
عبء الديون | ينخفض العبء الحقيقي للمدينين | يزداد العبء الحقيقي للمدينين | قد يزداد صعوبة السداد بسبب انخفاض الدخل |
المخاطر الرئيسية | تآكل المدخرات، عدم استقرار، دوامة الأجور والأسعار | دوامة انكماشية، ارتفاع الدين الحقيقي، فخ السيولة | بطالة واسعة، إفلاس شركات، أزمات اجتماعية |
مزاج السوق السائد | قلق من “ارتفاع الحرارة”، أو من ارتفاع التكاليف | تشاؤم، توقعات سلبية، إحجام عن المخاطرة | خوف، عدم يقين، بحث عن الأمان |
هذا الجدول يقدم مقارنة مبسطة، ولكن الواقع الاقتصادي غالباً ما يكون أكثر تعقيداً وتداخلاً. فالعلاقات بين هذه الظواهر ليست دائماً خطية أو مباشرة، وتعتمد بشكل كبير على السياق الاقتصادي والاجتماعي والسياسي لكل دولة.
مقياس الاقتصاد العربي: قراءة في مؤشرات 2024 وتوقعات 2025 – من الرياض إلى الرباط
في مكاتب صناع القرار وقاعات مجالس الإدارة عبر العالم العربي، تصل التقارير الدورية من المؤسسات المالية الدولية الكبرى مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، حاملةً معها أحدث التوقعات والتحليلات للمشهد الاقتصادي العالمي والإقليمي. هذه التقارير بمثابة “إحاطة استخباراتية” حاسمة، ترسم ملامح البيئة التي سيتعين على الاقتصادات العربية العمل ضمنها.
تشير أحدث التوقعات لعام 2025 إلى أن الاقتصاد العالمي يواجه رياحاً معاكسة، مع تباطؤ متوقع في النمو العالمي. فالبنك الدولي، في تقريره “الآفاق الاقتصادية العالمية” الصادر في يونيو 2025، يتوقع أن يضعف النمو العالمي إلى 2.3% في عام 2025، وهو ما يمثل تراجعاً عن التوقعات السابقة، مع انتعاش متواضع فقط متوقع في 2026-2027.2 ويعزى هذا التباطؤ جزئياً إلى تصاعد الحواجز التجارية وزيادة حالة عدم اليقين السياسي والاقتصادي على الساحة الدولية.2
كما أن تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر يزيد من صعوبة هذا السياق، خاصة بالنسبة للاقتصادات الصاعدة والنامية التي تعتمد عليه لتمويل التنمية وخلق فرص العمل.2
بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تحديداً، يتوقع البنك الدولي أن يرتفع معدل النمو إلى 2.7% في عام 2025، وأن يستمر في التحسن ليصل إلى متوسط 3.9% في عامي 2026 و2027.37 ومع ذلك، فإن هذه الأرقام الإجمالية تخفي تبايناً كبيراً بين دول المنطقة. فالاقتصادات المصدرة للنفط قد تستفيد من أسعار طاقة مرتفعة نسبياً، بينما تواجه الدول المستوردة للنفط تحديات أكبر تتعلق بفاتورة الاستيراد والضغوط التضخمية. كما أن الدول التي تعاني من صراعات أو عدم استقرار سياسي تواجه صعوبات إضافية في تحقيق أي نمو يذكر.
تؤكد هذه التقارير العالمية على أن الطريق إلى التعافي الاقتصادي المستدام يتطلب جهوداً منسقة على الصعيدين الدولي والمحلي. فعلى الصعيد الدولي، هناك حاجة ملحة لتعزيز التعاون لاستعادة بيئة تجارية عالمية أكثر استقراراً وشفافية، وتوسيع نطاق الدعم للبلدان الأكثر عرضة للمخاطر.2
أما على الصعيد المحلي، فيتعين على صناع السياسات في الدول العربية، كما في غيرها، التركيز على احتواء مخاطر التضخم، وتعزيز قدرة المالية العامة على الصمود، والأهم من ذلك، المضي قدماً في الإصلاحات الهيكلية التي تهدف إلى تحسين جودة المؤسسات، واجتذاب الاستثمارات الخاصة، وتنمية رأس المال البشري، وتطوير أسواق العمل.3
7 هذه الإصلاحات، رغم صعوبتها وحساسيتها السياسية أحياناً، هي الضمانة لتحقيق نمو قوي ومستدام على المدى الطويل وخلق فرص عمل كافية للأجيال الشابة. هذا التحدي المزدوج – إدارة الصدمات الاقتصادية الفورية وتنفيذ الإصلاحات الهيكلية طويلة الأمد – هو جوهر المعضلة التي تواجه العديد من قادة المنطقة اليوم.
تسليط الضوء على أسواق عربية رئيسية: نبض التضخم والنمو في عواصم القرار
لإعطاء صورة أوضح عن التضخم والانكماش والركود في المنطقة، دعونا نلقي نظرة سريعة على أحدث مؤشرات التضخم والنمو في عدد من الأسواق العربية الرئيسية، كما لو كنا نتنقل بين غرف التحكم الاقتصادي في عواصم القرار:
- المملكة العربية السعودية: شهدت المملكة ارتفاعاً في متوسط التضخم السنوي إلى 1.7% في عام 2024.8 وفي نوفمبر 2024، بلغ معدل التضخم 2.0%، مدفوعاً بشكل رئيسي بارتفاع أسعار مجموعة السكن والمياه والكهرباء والغاز وأنواع وقود أخرى بنسبة 8.8%، خاصة ارتفاع إيجارات السكن.8 ومع ذلك، تواصل الصادرات غير النفطية نموها، مما يعكس جهود التنويع الاقتصادي في إطار رؤية 2030.39
- دولة الإمارات العربية المتحدة: حافظت الإمارات على معدل تضخم منخفض نسبياً، حيث بلغ 1.3% في ديسمبر 2024 مقارنة بنفس الفترة من العام السابق.40 هذا الارتفاع الطفيف جاء نتيجة لزيادة أسعار بعض المجموعات السلعية، أبرزها مجموعة الترويح والثقافة.41 ويتوقع مصرف الإمارات المركزي أن يحقق اقتصاد الدولة نمواً بنسبة 4.7% خلال عام 2025، مدفوعاً بالأداء القوي للقطاع النفطي والقطاعات غير النفطية الأخرى.42
- جمهورية مصر العربية: تواجه مصر تحديات تضخمية كبيرة. فقد سجل المعدل السنوي للتضخم الأساسي 31.8% في أبريل 2024.43 ويتوقع صندوق النقد الدولي أن يصل معدل التضخم في مصر إلى 19.7% خلال العام المالي 2024/2025، وهو رقم مرتفع رغم أنه يمثل انخفاضاً عن توقعات سابقة وعن معدلات العام المالي الأسبق.44 وتستمر البلاد في التعامل مع تداعيات تخفيض قيمة الجنيه وزيادة مدفوعات خدمة الدين الخارجي.45
- المملكة المغربية: سجل المغرب ارتفاعاً طفيفاً في معدل التضخم بلغ 0.9% في عام 2024، وذلك بعد أن كان قد شهد معدل تضخم أعلى بكثير بلغ 6.1% في عام 2023، متأثراً بارتفاع أسعار المواد الأساسية عالمياً وسنوات الجفاف المتتالية.46
- المملكة الأردنية الهاشمية: ارتفع معدل التضخم في الأردن بنسبة 1.56% خلال عام 2024 مقارنة بعام 2023.47 وتشير بيانات البنك المركزي الأردني إلى أن معدل التضخم بلغ 1.97% للفترة من يناير إلى أبريل 2025.49 ويواصل الاقتصاد الأردني تحقيق نمو متواضع في ظل التحديات الإقليمية والاقتصادية.
هذه الأرقام، رغم أهميتها، لا تحكي القصة كاملة. فخلف كل نسبة مئوية هناك عوامل محلية معقدة، وقرارات حكومية، وتأثيرات عالمية، وظروف اجتماعية فريدة. فالاختلافات الكبيرة في معدلات التضخم بين هذه الدول – من نسب منخفضة في دول الخليج إلى نسب مرتفعة جداً في مصر – تسلط الضوء على تباين الحقائق الاقتصادية والتحديات السياسية التي تواجه كل دولة على حدة، وتؤكد أنه لا يوجد حل واحد يناسب الجميع في المنطقة العربية.
ففي دول الخليج المصدرة للنفط مثل السعودية والإمارات، تتضمن إدارة التضخم تحقيق توازن دقيق بين الأهداف الاقتصادية المحلية وديناميكيات سوق الطاقة العالمية، بالإضافة إلى التأثيرات التضخمية المحتملة للمشاريع التنموية العملاقة التي يتم تنفيذها. فبينما تستفيد هذه الدول من عائدات النفط المرتفعة، فإن حجم الاستثمارات العامة والخاصة الضخمة يمكن أن يخلق ضغوطاً تضخمية ناتجة عن زيادة الطلب المحلي إذا لم تتم إدارتها بحذر، حتى مع بقائها عرضة للتضخم المستورد في سلع أخرى.
لوحة مؤشرات الاقتصاد العربي: التضخم والنمو في دائرة الضوء
لتوفير نظرة مقارنة سريعة لأداء هذه الاقتصادات، يعرض الجدول التالي أحدث البيانات والتوقعات المتاحة:
الدولة | أحدث معدل تضخم مُعلن (الفترة) | توقعات التضخم 2025 (صندوق النقد/البنك الدولي) | أحدث معدل نمو للناتج المحلي الإجمالي (الفترة) | توقعات نمو الناتج المحلي الإجمالي 2025 (صندوق النقد/البنك الدولي) | تحدي اقتصادي رئيسي حالي |
المملكة العربية السعودية | 2.0% (نوفمبر 2024) 8 | (متوسط 2024: 1.7% 8) | (نمو الصادرات غير النفطية 13.4% الربع الأول 2025 39) | (توقعات البنك الدولي للمنطقة ككل: 2.7% 37) | تنويع الاقتصاد، خلق وظائف للشباب 17 |
دولة الإمارات العربية المتحدة | 1.3% (ديسمبر 2024) 40 | (نمو متوقع 4.7% في 2025 42) | 3.9% (2024) 42 | 4.7% (مصرف الإمارات المركزي) 42 | الاعتماد على العمالة الوافدة، تقلبات أسعار النفط 34 |
جمهورية مصر العربية | 31.8% (أساسي، أبريل 2024) 43 | 19.7% (للعام المالي 2024/2025 – صندوق النقد) 44 | (تباطؤ النمو متوقع) | 3.8% (للعام المالي 2024/2025 – صندوق النقد) 44 | الدين العام، سعر الصرف، التضخم المرتفع 45 |
المملكة المغربية | 0.9% (2024) 46 | (توقعات البنك الدولي للمنطقة ككل: 2.7% 37) | (تأثر بالجفاف في 2023) | (توقعات البنك الدولي للمنطقة ككل: 2.7% 37) | تأثير الجفاف على الزراعة، البطالة بين الشباب |
المملكة الأردنية الهاشمية | 1.97% (يناير-أبريل 2025) 49 | (توقعات البنك الدولي للمنطقة ككل: 2.7% 37) | 2.4% (يناير-سبتمبر 2024) 50 | (توقعات البنك الدولي للمنطقة ككل: 2.7% 37) | المديونية، البطالة، الاعتماد على المساعدات 51 |
ملاحظة: توقعات صندوق النقد/البنك الدولي للنمو والتضخم لعام 2025 قد تكون عامة للمنطقة أو لم تُحدَّث بعد لبعض الدول بشكل فردي في المصادر المتاحة. التحديات الاقتصادية مستنبطة من فهم عام للسياق الاقتصادي لكل دولة بناءً على المواد البحثية.
هذه اللوحة، رغم أنها لا تغطي جميع دول المنطقة، إلا أنها تعطي مؤشراً على التحديات والفرص المتباينة التي تواجه الاقتصادات العربية في سعيها نحو تحقيق الاستقرار والازدهار في بيئة عالمية متغيرة باستمرار.
فك شفرة الطقس الاقتصادي – نحو قرارات مستنيرة في عالم عربي متغير
في ختام هذا الإبحار المعقد في مياه التضخم والانكماش والركود، يتضح جلياً أن هذه المصطلحات ليست مجرد مفاهيم أكاديمية حبيسة الكتب والنظريات. بل هي قوى حية، محركات أساسية، تحدد مسار حياتنا اليومية، وتشكل مستقبل أجيالنا، وترسم ملامح اقتصاداتنا العربية من المحيط إلى الخليج. إنها الطقس الاقتصادي الذي نعيشه ونتنفسه، والذي يؤثر في قدرتنا على العمل والادخار والاستثمار والحلم.
إن فهم هذه القوى – كيف تنشأ، وكيف تتفاعل، وما هي آثارها – لم يعد رفاهية فكرية، بل ضرورة حتمية لكل مواطن يسعى لاتخاذ قرارات مالية مستنيرة، ولكل شركة تطمح إلى النمو والاستدامة في بيئة تنافسية، ولكل صانع قرار يتصدى لمسؤولية قيادة دفة الاقتصاد الوطني نحو بر الأمان. فالمعرفة هنا هي القوة، هي البوصلة التي تمكننا من قراءة علامات التحذير، واستغلال الفرص المتاحة، والتخفيف من حدة الصدمات.
إن قدرة الحكومات والمؤسسات العربية على التواصل بشفافية ووضوح مع مواطنيها حول الحقائق الاقتصادية والتحديات القائمة والسياسات المتبعة، هي حجر الزاوية في بناء الثقة والحفاظ عليها خلال الأوقات الصعبة.52 ففي عصر تتدفق فيه المعلومات بسرعة هائلة، لم يعد ممكناً إخفاء الحقائق أو تجميلها. المصارحة والمشاركة هما السبيل لتعزيز التعاون المجتمعي وتجاوز الأزمات بأقل الخسائر الممكنة.
الخلاصة
وفي نهاية المطاف، فإن “ثمن الغد” الذي ستدفعه المنطقة العربية لا يقتصر فقط على كيفية إدارتها لهذه الظواهر الاقتصادية الدورية كالتضخم والانكماش والركود. بل يمتد ليشمل قدرتها على معالجة التحديات الهيكلية الأعمق التي تواجهها: من تنويع اقتصاداتها بعيداً عن الاعتماد على مصادر دخل وحيدة ومتقلبة، إلى الاستثمار الحقيقي في رأس المال البشري وتأهيل الشباب لمواكبة متطلبات سوق العمل المستقبلية، إلى تعزيز جودة المؤسسات وترسيخ مبادئ الحوكمة الرشيدة والشفافية والمساءلة.2 هذه هي القضايا الجوهرية التي ستحدد مدى قدرة اقتصاداتنا العربية على بناء مستقبل أكثر صلابة وازدهاراً واستدامة لأجيال قادمة.
الأسئلة الشائعة
هل الركود هو تضخم أم انكماش؟
الركود ليس تضخمًا، بل هو أقرب إلى الانكماش. يحدث الركود عندما يتباطأ النمو الاقتصادي وتنخفض معدلات الإنتاج والاستهلاك. وقد يصاحبه انخفاض في الأسعار (انكماش) أو ارتفاع طفيف (تضخم ركودي)، لكنه يُعرف أساسًا بتراجع النشاط الاقتصادي.
ما هو الفرق بين التضخم والركود والكساد؟
التضخم يعني ارتفاعًا عامًا ومستمرًا في الأسعار وفقدان القوة الشرائية. أما الركود فهو تباطؤ اقتصادي مؤقت يستمر لربعين متتاليين على الأقل، مع تراجع في الناتج المحلي. الكساد أشد من الركود، ويستمر لفترات طويلة مع انهيار اقتصادي واسع النطاق.
كيفية التداول خلال فترة الركود الاقتصادي؟
خلال الركود، يُنصح بالتركيز على الأصول الدفاعية مثل الذهب، والأسهم في القطاعات الأساسية كالصحة والسلع الاستهلاكية. يجب الابتعاد عن الأسهم عالية المخاطر أو المرتبطة بالدورات الاقتصادية مثل السياحة. التنويع والتحليل الفني الدقيق يساعدان على تقليل الخسائر واغتنام الفرص.