يشهد وادي السيليكون في كاليفورنيا اتجاهاً جديداً ومثيراً للجدل، حيث يدفع كبار المديرين التنفيذيين في قطاع التكنولوجيا مبالغ تصل إلى 50 ألف دولار مقابل خدمات الفحص الجيني للأجنة، بهدف انتقاء الأجنة الأكثر ذكاءً قبل زراعتها في الرحم.
هوس غير مسبوق بتحسين الجينات
تسعى العائلات في وادي السيليكون لانتقاء أطفالها بناءً على معايير جينية محددة، خاصة مستوى الذكاء. وفقاً لصحيفة وال ستريت جورنال، تتنوع أسعار هذه الخدمات بشكل كبير، حيث تقدم شركة “نيوكليوس جينوميكس” خدماتها مقابل 6 آلاف دولار، بينما تصل تكلفة خدمات شركة “هيراسايت” إلى 50 ألف دولار للفحص الواحد.
يُطلق على هذه العملية مصطلح “فحص الأجنة متعدد الجينات” (PES)، وهي خدمة متاحة تجارياً تختبر الأجنة للكشف عن حالات معقدة وسمات وخطر الإصابة بأمراض شائعة مثل مرض السكري والسرطان والاضطرابات النفسية، بالإضافة إلى سمات مثل الطول ومعدل الذكاء.
شركات رائدة في مجال الفحص الجيني
تتصدر عدة شركات ناشئة هذا المجال المثير للجدل. تأسست شركة “نيوكليوس جينوميكس” على يد كيان صادقي البالغ من العمر 25 عاماً، والذي ترك دراسته الجامعية لإطلاق الشركة عام 2020. حصلت الشركة على استثمارات تزيد عن 18 مليون دولار من مستثمرين بارزين مثل أليكسيس أوهانيان مؤسس موقع ريديت وصندوق “فاونديرز فاند”.
من جهة أخرى، تأسست شركة “هيراسايت” على يد العالمين توبياس وولفرام وأليكس ستردويك يانغ، وتدّعي قدرتها على التنبؤ بذكاء الطفل واحتمالية الإصابة بـ17 مرضاً مختلفاً من خلال فحص الأجنة. أما شركة “أوركيد هيلث” فتأسست على يد نور صديقي، وتقدم خدمات تحليل الجينوم الكامل للأجنة مقابل 2500 دولار لكل جنين.
رؤساء التكنولوجيا يبحثون عن شركاء أذكياء
يؤكد خبراء الزواج المتخصصون في خدمة الأثرياء ازدياد الطلب من قبل الرؤساء التنفيذيين لشركات التكنولوجيا على إيجاد شركاء حياة أذكياء. تقول جينيفر دونيلي، خبيرة الزواج التي تتقاضى رسوماً تصل إلى 500 ألف دولار، لصحيفة وول ستريت جورنال: “حالياً لدي واحد، اثنان، ثلاثة رؤساء تنفيذيين لشركات تكنولوجيا، وجميعهم يفضلون خريجات جامعات مجموعة آيفي ليغ”.
وتضيف دونيلي أنها شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في عدد المديرين التنفيذيين للتكنولوجيا الذين يسعون للاقتران بشركاء أذكياء للحصول على “نسل ذكي”. وتوضح قائلة: “إنهم لا يفكرون فقط في الحب، بل يفكرون أيضاً في الجينات والنتائج التعليمية والإرث”.
استجابة إيلون ماسك ودعم المشاهير
لاقت هذه التقنيات استجابة إيجابية من شخصيات بارزة في عالم التكنولوجيا. أعرب إيلون ماسك عن حماسه لهذه الفكرة عندما علق بكلمة “رائع” على منشور حول شركة “هيراسايت”. يُذكر أن ماسك نفسه استخدم خدمات شركة “أوركيد” لفحص أجنته، وفقاً للتقارير.
تُظهر هذه الاستجابة مدى انتشار هذا الاتجاه بين نخبة وادي السيليكون، حيث يُنظر إلى تحسين الجينات كاستثمار في المستقبل. يقول كيان صادقي، مؤسس “نيوكليوس جينوميكس”: “وادي السيليكون مهووس بمعدل الذكاء العالي”.
أمثلة واقعية من العائلات
تُعتبر عائلة سيمون ومالكولم كولينز مثالاً واضحاً على هذا الاتجاه. الزوجان، اللذان يعملان في مجال التكنولوجيا والاستثمار المؤسسي، رُزقا بأربعة أطفال عبر التلقيح الاصطناعي وأجروا فحوصاً جينية لأجنتهم باستخدام خدمات “هيراسايت”. اختارت سيمون الجنين الذي تحمله حالياً بسبب انخفاض مخاطر الإصابة بالسرطان، كما أنهما سُرّا لأن الجنين يقع في الشريحة المئوية الـ99 لاحتمالية امتلاك ذكاء استثنائي.
في حالة أخرى، استخدم زوجان من مهندسي البرمجيات في منطقة الخليج جدولاً في جوجل لتحليل البيانات من “هيراسايت” وتقييم أهمية السمات المختلفة. تساءلا: “كم نسبة الخطر الإضافي للإصابة بالزهايمر مدى الحياة التي تُعوّض انخفاض نقطة واحدة في خطر الاضطراب؟” و”كم يمكن أن يلغي الخطر الإضافي لاضطراب فرط الحركة مقابل زيادة 10 نقاط في معدل الذكاء؟”. في النهاية، أصبح الجنين الذي حصل على أعلى نقاط إجمالية، والذي كان أيضاً ثالث أعلى معدل ذكاء متوقع، ابنتهم.
علماء ومعارضون يحذرون من المخاطر
يُحذر علماء بارزون من مخاطر هذه الممارسات وعدم دقتها العلمية. يقول البروفيسور هانك جريلي، مدير مركز القانون والعلوم الحيوية في جامعة ستانفورد: “هل هذا عادل؟ هذا ما يقلق الكثير من الناس. إنها كقصة خيال علمي رائعة: الأغنياء يخلقون طبقة عليا جينية تسيطر والباقون منا يصبحون عمالاً”.
يضيف ساشا جوسيف، عالم الوراثة الإحصائية في كلية الطب بجامعة هارفارد: “أعتقد أن لديهم إدراكاً بأنهم أذكياء ومحققون لإنجازات، ويستحقون أن يكونوا في مواقعهم الحالية لأن لديهم جينات جيدة. الآن لديهم أداة يعتقدون أنه يمكنهم فعل الشيء نفسه مع أطفالهم أيضاً”.
فعالية محدودة للاختبارات الجينية
يشكك خبراء في فعالية هذه الاختبارات الجينية للتنبؤ بالذكاء. يوضح البروفيسور شاي كارمي من الجامعة العبرية في القدس: “ما مدى فعالية الاختبارات الجينية في التنبؤ بمعدل الذكاء؟ الإجابة هي أنها ليست فعالة جداً”. ويضيف أن النماذج الحالية يمكن أن تفسر حوالي 5% إلى 10% من الاختلافات في القدرات المعرفية بين الأفراد.
يُحذر كارمي من أن اختيار الأجنة بناءً على معدل الذكاء المتوقع قد يحقق في المتوسط زيادة قدرها ثلاث إلى أربع نقاط في معدل الذكاء مقارنة بالاختيار العشوائي، لكن “هذا لن يجعل طفلكم عبقرياً”.
تحديات أخلاقية ومخاطر غير مقصودة
يُحذر الخبراء من عواقب غير مقصودة لاختيار الأجنة عالية الذكاء. يقول ساشا جوسيف: “إذا اخترتم الجنين الذي تعتقدون أن لديه أعلى معدل ذكاء، فقد تختارون أيضاً دون قصد الجنين الذي لديه أعلى خطر للإصابة بطيف التوحد”.
تثير هذه الممارسات مخاوف حول عدالة الوصول إلى هذه التقنيات، حيث تقتصر على القادرين مالياً فقط. كما تُطرح تساؤلات حول إمكانية خلق نظام طبقي جيني يُعمّق الفجوات الاجتماعية الموجودة.
مستقبل الإنجاب في عصر التكنولوجيا
رغم الجدل المحيط بهذه التقنيات، يتوقع الخبراء استمرار نموها وتطورها. يشير تقرير صادر عن المعاهد الوطنية للصحة إلى أن فحص الأجنة متعدد الجينات متاح حالياً تجارياً، مما يفتح المجال أمام مزيد من التطبيقات المستقبلية.
تُمثل هذه التطورات تحولاً جذرياً في مفهوم الإنجاب والأبوة، حيث تنتقل القرارات من المصادفة الطبيعية إلى الاختيار المدروس بناءً على البيانات الجينية. وبينما يرى المؤيدون في هذه التقنيات فرصة لتحسين حياة الأجيال القادمة، يُحذر المعارضون من مخاطرها الأخلاقية والاجتماعية طويلة المدى.