في الدقيقة الأخيرة من خطاب استمر لساعتين، وبينما كان الحضور البالغ عددهم 60 ألفاً في قاعة ذا فينيشيان يهمون بالمغادرة، وعقولهم مشبعة بوعود وكلاء الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية، فجّر مات غارمان، الرئيس التنفيذي لأمازون ويب سيرفسز، مفاجأة لم تكن في الحسبان.
لم تكن المفاجأة خوارزمية جديدة خارقة، ولا روبوتاً يتحدث كالبشر؛ بل كانت شيئاً قديماً، تقليدياً، ومملاً للغاية في عرف وادي السيليكون: خصم على الأسعار.
قال غارمان بابتسامة خفيفة، وكأنه يلقي طوق نجاة لجمهور يغرق: “لقد سألتموني كثيراً: متى يمكنني الحصول على خطة توفير لقواعد بياناتي؟ وها هي هنا. بدءاً من اليوم، يمكنكم توفير ما يصل إلى 35% على قواعد البيانات”.

للوهلة الأولى، بدا هذا الإعلان وكأنه خبر روتيني يهم المحاسبين فقط. ولكن، إذا وضعنا هذا الإعلان تحت مجهر التحليل الاقتصادي، وربطناه بما قاله لنا قادة أمازون ويب سيرفسز في الكواليس، وما تكشفه تقارير “وول ستريت” وتقارير الامتثال في المملكة العربية السعودية وأوروبا، سنكتشف أننا أمام مناورة استراتيجية كبرى، تهدف لإنقاذ قطاع التكنولوجيا من نفسه.
لماذا تعتبر “قواعد البيانات المملة” هي الجندي المجهول الذي سيمول ثورة الذكاء الاصطناعي القادمة، ولماذا تحولت “السيادة الرقمية” من شعار سياسي إلى ضرورة اقتصادية ملحة؟
لماذا يصرخ المدراء الماليون؟
لفهم سياق هذا التخفيض، يجب أن نخرج قليلاً من قاعة المؤتمر لنقرأ واقع السوق. لماذا تقوم شركة تسيطر على 31% من سوق السحابة العالمي (بحسب بيانات Synergy Research) بخفض أسعار منتج أساسي كقواعد البيانات مثل Aurora وDynamoDB لا يمكن للشركات الاستغناء عنه؟ القاعدة الاقتصادية تقول: “لا تخفض سعر سلعة الطلب عليها غير مرن”.
الإجابة تكمن في تقرير حالة السحابة 2024 (State of the Cloud) الصادر عن مؤسسة Flexera. يكشف التقرير عن حقيقة مؤلمة: 59% من الشركات العالمية أبلغت عن زيادة غير متوقعة في إنفاقها السحابي هذا العام. والأخطر من ذلك، اعتبر 57% من المدراء الماليين (CFOs) أن تحسين التكلفة (Cost Optimization) هو أولويتهم القصوى للعام القادم، متفوقاً حتى على الأمن السيبراني.
في حديثنا مع توم سودرستروم، الخبير الاستراتيجي في أمازون ويب سيرفسز، واجهناه بهذه الحقيقة. إجابته كانت اعترافاً نادراً بـ “الواقعية القاسية” وسط بحر من التفاؤل التسويقي. قال سودرستروم: “المشكلة الأكبر التي تواجه الذكاء الاصطناعي اليوم هي التوقعات غير الواقعية. المديرون يسألون: أين العائد؟ وتوقع توفير المال فوراً من الذكاء الاصطناعي هو توقع غير واقعي”.
نحن إذن أمام ما يسميه الاقتصاديون “مفارقة الإنتاجية” (Productivity Paradox). الشركات حول العالم تعيش أزمة سيولة تقنية. أنفقت ميزانياتها لعامي 2023 و2024 على تجارب الذكاء الاصطناعي التوليدي (GenAI) التي، ورغم انبهارنا بها، لم تتحول بعد إلى دولارات في البنك.
هنا تتضح عبقرية خطوة أمازون ويب سيرفسز. التخفيض بنسبة 35% على البنية التحتية التقليدية (قواعد البيانات) ليس هدية؛ بل هو إعادة هندسة للميزانية.
أمازون ويب سيرفسز تقول لعملائها ضمنياً: “نحن نعلم أنكم لا تملكون المال لشراء أدوات الذكاء الاصطناعي الجديدة (الوكلاء)، لذا سنقوم بخفض فاتورة الأشياء القديمة المملة التي تستخدمونها، لكي يتوفر لديكم فائض مالي تنفقونه على الأشياء الجديدة الباهظة”. إنها عملية دعم داخلي (Cross-subsidization) تهدف لإبقاء عجلة الابتكار دائرة في وقت تعاني فيه الميزانيات من الجفاف.
الجغرافيا تنتقم.. صعود “السيادة الرقمية“
إذا كان المال هو المحرك الأول لهذه الاستراتيجية، فإن القانون هو المحرك الثاني، وربما الأقوى. في الشرق الأوسط وأوروبا، لم يعد السؤال التقني هو “كم تكلفة التيرابايت؟”، بل أصبح السؤال الجيوسياسي هو “أين يقع التيرابايت؟”.

في سبتمبر 2024، دخل نظام حماية البيانات الشخصية (PDPL) في المملكة العربية السعودية حيز التنفيذ الكامل، فارضاً قيوداً صارمة على نقل البيانات السيادية خارج الحدود. وفي أوروبا، يفرض قانون اللائحة العامة لحماية البيانات GDPR وقانون الذكاء الاصطناعي الجديد (AI Act) قيوداً مماثلة.
في مقابلتنا الحصرية مع د. رولاند إيلينغ، المدير الطبي التنفيذي ورئيس قطاع الرعاية الصحية الدولية في أمازون ويب سيرفسز، كشف لنا عن البعد الجيوسياسي لاستراتيجية الشركة. إيلينغ، الذي يقضي أيامه في التفاوض مع وزارات الصحة والحكومات، يدرك أن “السحابة العالمية” لم تعد مقبولة للجميع.
قال إيلينغ بوضوح: “نحن نعمل مع حكومات حول العالم… ونقوم بإطلاق منطقة سحابية جديدة في المملكة العربية السعودية في الربع الثالث من العام القادم”. لماذا تبني أمازون ويب سيرفسز مراكز بيانات بمليارات الدولارات داخل الحدود الوطنية للدول بدلاً من خدمتهم من مراكزها الضخمة في أمريكا؟
لأن الحكومات، والقطاعات الحساسة (الصحة، الدفاع، البنوك)، لن تنقل بياناتها إلى “وكلاء أذكياء” يعيشون في خوادم أمريكية. مبادرات “السحابة السيادية” (Sovereign Cloud) التي أشار إليها إيلينغ هي استجابة لواقع قانوني جديد: البيانات هي النفط الجديد، والدول تصر الآن على تخزين نفطها وتكريره داخل أراضيها.
إعلان خفض أسعار قواعد البيانات يخدم هذا الهدف الجيوسياسي أيضاً. فهو يغري الحكومات التي لا تزال تحتفظ ببياناتها في خوادم محلية (On-premise) مكلفة جداً، ويقول لها: “الانتقال إلى السحابة السيادية (الموجودة في الرياض أو برلين) أصبح أرخص بـ 35%”. إنها محاولة لكسر مقاومة القطاع العام عبر الإغراء المالي والامتثال القانوني معاً.
“ضريبة الامتثال”.. كيف يختنق الابتكار باللوائح؟
هناك عامل ثالث خفي يلتهم ميزانيات الشركات ولا يظهر في الإعلانات، وهو “تكلفة الامتثال” (Compliance Cost).
في حديث توم سودرستروم معنا، ذكر رقماً صادماً يلخص مأساة الشركات الأوروبية والعالمية، وهو رقم يتقاطع مع توقعات Gartner لعام 2025. قال سودرستروم: “تقريباً نصف الاستثمارات التقنية في أوروبا تذهب للامتثال للقوانين. هذا يعني أن نصف الميزانية فقط يتبقى للابتكار”.
تخيل شركة تريد بناء “وكيل ذكي” لخدمة العملاء. نصف ميزانيتها يذهب لمحامين، وخبراء أمن، ومدققين لضمان عدم انتهاك قوانين الخصوصية. هذا يترك القليل جداً لشراء التكنولوجيا نفسها.
هنا تبرز الأهمية الحقيقية لأدوات مثل “Nova Forge” التي أطلقتها أمازون ويب سيرفسز في المؤتمر. هذه الأداة تسمح للشركات بتدريب نماذجها الخاصة على بياناتها الخاصة، وامتلاك “الأوزان” (Weights) الناتجة قانونياً.
أمازون ويب سيرفسز تحاول تحويل الامتثال من تكلفة بشرية باهظة ومعيقة، إلى ميزة تقنية مدمجة في السحابة. من خلال خفض تكلفة تخزين البيانات (قواعد البيانات) وتوفير أدوات امتثال آلية، تحاول أمازون ويب سيرفسز تحرير الميزانية “المخنوقة” لتوجيهها نحو الابتكار، بدلاً من أن تذهب لشركات المحاماة والاستشارات.

وهم “موت الأنظمة القديمة”.. الواقعية الصناعية
طوال أيام المؤتمر، رأينا عروضاً مسرحية لتحطيم خوادم قديمة وإسقاطها من رافعات. الرسالة التسويقية كانت: “تخلصوا من الإرث القديم (Legacy)، واعتنقوا المستقبل”. لكن الواقع الذي كشفه لنا ستيف بلاكويل، القائد التقني العالمي لقطاع التصنيع في AWS، كان مختلفاً تماماً، ومدعوماً بفيزياء الواقع الصلب.
في حديثه لـ “لنا”، نسف بلاكويل فكرة الانتقال الكامل للسحابة. قال بوضوح: “العمل مع المصانع القديمة (Brownfield) يفرض تحديات خاصة. كيف نستخرج البيانات من آلة عمرها 20 عاماً؟ هذه الأنظمة لن تختفي”.
الشركات الكبرى (شركات النفط، شركات السيارات، البنوك العريقة) لا تستطيع ببساطة “إطفاء” قواعد بياناتها القديمة (SQL Server, Oracle) للانتقال إلى الذكاء الاصطناعي غداً. هذه الأنظمة هي العمود الفقري الذي يدير الفواتير والرواتب وخطوط الإنتاج.
إدراكاً لهذه الحقيقة، وتماشياً مع توقعات Gartner بأن الإنفاق على أنظمة مراكز البيانات سينمو بنسبة 23.2% في 2025 (عكس التوقعات بموتها)، غيرت أمازون ويب سيرفسز نبرتها. لم تطلب من العملاء “قتل” قواعد بياناتهم القديمة، بل جعلتها “أرخص وأكبر”.
إعلان دعم SQL Server بسعة تخزينية تصل إلى 64 تيرابايت هو اعتراف ضمني من أمازون بأن “العالم القديم” باقٍ ويتمدد. استراتيجية أمازون ويب سيرفسز لعام 2025 ليست الاستبدال بل التعايش.
لا تنخدعوا بالبريق.. اتبعوا المال
الدرس المستفاد من التحليل المالي المعمق لمؤتمر “re:Invent 2025” هو أن الثورة التقنية تحتاج إلى وقود مالي لتستمر. الذكاء الاصطناعي هو المحرك الجديد اللامع، لكن قواعد البيانات هي الهيكل القديم الصدئ الذي يحمل السيارة بأكملها.
بالنسبة للمدراء التنفيذيين وصناع القرار في منطقتنا العربية:
1- اغتنموا الفرصة “المملة”: خفض أسعار قواعد البيانات (35%) هو العائد الاستثماري الوحيد المضمون الذي خرج من لاس فيغاس الأسبوع الماضي. كل شيء آخر (وكلاء، ذكاء اصطناعي) هو رهان محتمل الربح أو الخسارة، لكن توفير ثلث فاتورة البيانات هو ربح فوري.
2- السيادة أولاً: الاستثمار في البنية التحتية المحلية (في المناطق السحابية الجديدة في السعودية والإمارات) لم يعد خياراً ترفيهياً، بل هو بوليصة التأمين الوحيدة لضمان استمرارية الأعمال في ظل تشريعات البيانات العالمية المتغيرة.
قد تكون “الروبوتات” ووكلاء الذكاء الاصطناعي هي التي سرقت الأضواء والتصفيق في لاس فيغاس، ولكن “قواعد البيانات” الرخيصة والآمنة والسيادية هي التي ستدفع الرواتب في نهاية الشهر. في عالم التكنولوجيا المجنون، أحياناً يكون “الملل” هو الاستثمار الأكثر ذكاءً.




