70% من مشاريع التحول الرقمي الصناعي تفشل في الانتقال من المختبر إلى الواقع، وهجمات سلاسل التوريد ارتفعت بنسبة 742%. في حواراتنا الصريحة مع قادة الأمن والتصنيع، تكشفت الفجوة الهائلة بين “أحلام وادي السيليكون” و”واقع العالم الحقيقي القديم والخطير”.
بينما ينشغل العالم بتوليد الصور والنصوص، هناك معركة أخرى تدور في الظل، بعيداً عن الأضواء، تتعلق بالبنية التحتية الحرجة التي تدير حياتنا: المصانع التي تنتج طعامنا، والشبكات التي تحمي بياناتنا. في هذا التقرير، نجمع بين الواقعية القاسية رئيس مركز تميز هندسة المنتجات والخدمات في أمازون ويب سيرفسز والحذر الأمني لـ مارك رايلاند، المدير في مكتب رئيس أمن المعلومات، وندعمها ببيانات السوق لنفهم لماذا لا تكفي “السحابة” وحدها لإدارة كوكب معقد.
المصانع.. مقبرة المشاريع التجريبية
في عصر الاندفاع الأعمى نحو السحابة (Cloud First)، كان ستيف بلاكويل صوتاً مختلفاً ولكنه ضروري جداً. في حديثه معنا، نسف فكرة نقل كل شيء إلى السحابة، مستنداً إلى حقيقة علمية لا يمكن تجاوزها: الفيزياء.
كلام بلاكويل يدعمه الواقع المؤلم للسوق. تقرير ماكينزي يبيّن إلى أن قطاع التصنيع يعاني مما يسمى “جحيم المشاريع التجريبية” (Pilot Purgatory)، حيث 70% من مشاريع التحول الرقمي تفشل في التوسع خارج المراحل التجريبية. السبب؟ محاولة تطبيق حلول الإنترنت على واقع الحديد والصلب.
يقول بلاكويل: “لست متأكداً من أننا سنصل أبداً إلى نسبة 100% في السحابة. الآلات تحتاج إلى تحكم لحظي. عندما يكون لديك روبوت يلحم سيارة، لا يمكنك انتظار الإشارة لتسافر إلى خادم في قارة أخرى وتعود. الفيزياء تمنع ذلك.”
هذا التوجه تؤكده أحدث توقعات مؤسسة البيانات الدولية (IDC)، التي تشير إلى أن الإنفاق على “حوسبة الحافة” (Edge Computing) يواصل صعوده الصاروخي ليقترب من 350 مليار دولار بحلول 2027، مع معدل نمو سنوي مستمر يتجاوز 15%. الشركات الآن تدرك أن الذكاء يجب أن يكون قريباً من الآلة، وليس في مركز بيانات بعيد.
الاستدامة. الوجه الآخر للربح كما أثار بلاكويل نقطة نادراً ما تناقش: الاستدامة كضرورة اقتصادية. مع كون القطاع الصناعي مسؤولاً عن 30% من انبعاثات الكربون العالمية، فإن ضغط المستثمرين والتشريعات أصبح هائلاً. استخدام الذكاء الاصطناعي لتقليل الهدر في المواد الخام بنسبة 10-20% كما تشير تقارير مجموعة بوسطن الاستشارية قد يكون له أثر بيئي يفوق بكثير تكلفة تشغيل الخوادم. المعادلة هنا ليست حماية البيئة فقط، بل حماية الهامش الربحي.

الأمن.. الكابوس القادم من الداخل
إذا كانت المصانع تعاني من الفيزياء وقدم الآلات، فإن قطاع الأمن يعاني من “الخيانة غير المقصودة” و”تطور الأعداء”. مارك رايلاند كشف لنا عن تغيير جذري في طبيعة التهديدات، الخطر الحقيقي اليوم ليس اختراق الجدار الناري Firewall، بل هجمات سلاسل التوريد (Supply Chain Attacks).
هذا ليس تخوفاً نظرياً. فقد كشف أحدث تقارير Sonatype عن قفزة مخيفة، حيث تم رصد أكثر من 500 ألف حزمة برمجية خبيثة جديدة في عام واحد فقط، بزيادة سنوية تجاوزت 156%. المهاجمون لم يعودوا يكسرون الأبواب؛ بل يسممون المياه التي يشرب منها الجميع (المكتبات البرمجية المفتوحة المصدر)، ويبنون ثقة طويلة الأمد مع المطورين قبل الضربة، كما حدث في هجوم XZ Utils الشهير.
يقول رايلاند: “الذكاء الاصطناعي هو مضخم لقدرات البشر، وهذا يشمل المهاجمين أيضاً. لا يمكننا الاعتماد على الثقة بعد الآن”.
تزداد الخطورة مع صعود ما يسمى الذكاء الاصطناعي الخفي (Shadow AI). تشير بيانات Salesforce إلى أن 28% من الموظفين يستخدمون الذكاء الاصطناعي في العمل دون موافقة أمنية، مما يعرض بيانات الشركات لخطر التسريب. الموظف المتحمس الذي يريد إنجاز عمله بسرعة قد يكون أخطر على المؤسسة من الهاكر المحترف.
الحل الذي يطرحه رايلاند (الهويات المؤقتة ومراقبة السلوك) يتماشى مع مبدأ الثقة الصفرية Zero Trust الذي تتوقع Gartner أن تتبناه 10% فقط من الشركات الكبرى بشكل ناضج بحلول 2026، مما يعني أن الغالبية العظمى لا تزال مكشوفة أمام هذا النوع الجديد من التهديدات.

البقاء للأكثر واقعية
الرابط العجيب بين حديث بلاكويل ورايلاند هو التعقيد. المصانع ليست مجرد خوادم؛ هي بيئات فوضوية مليئة بآلات قديمة (Legacy Systems) تكلف صيانتها المليارات ولا يمكن استبدالها بضغطة زر. والأمن ليس مجرد جدار ناري؛ هو معركة مستمرة ضد مهاجمين يستخدمون الذكاء الاصطناعي لتزييف الأصوات والهويات.
الرسالة النهائية للمؤسسات الصناعية والحكومية في منطقتنا: لا تنجرفوا خلف “الترند” والحلول السهلة. الاستثمار في “حوسبة الحافة” (للمصانع) وفي تحديث بروتوكولات الهوية (للأمن) قد يكون أقل بريقاً من شراء روبوت متحدث، ولكنه هو الاستثمار الوحيد الذي يحمي المؤسسة من التوقف (Downtime) الذي يكلف المصانع العالمية 50 مليار دولار سنوياً.




