“يونان” فيلم عن العزلة والاغتراب والوحدة

يُعرض فيلم يونان للمخرج أمير فخر الدين في مهرجان البحر الأحمر السينمائي، مقدماً تجربة سينمائية تتناول الغربة، المنفى، وعلاقة الإنسان بالطبيعة بأسلوب بصري ومؤثر.

فريق التحرير
فريق التحرير
عرض فيلم يونان

ملخص المقال

إنتاج AI

في عرضه الأول باللغة العربية، يستكشف فيلم "يونان" للمخرج أمير فخر الدين، والذي عُرض في مهرجان البحر الأحمر السينمائي، موضوعات الاغتراب والمنفى من خلال قصة كاتب يعيش في هامبورغ، ويواجه الوحدة والإحباط، ثم يبدأ رحلة إلى جزيرة ألمانية معزولة.

النقاط الأساسية

  • فيلم "يونان" يستكشف تجربة الاغتراب وتأثير المنفى على الروح.
  • جورج خباز يجسد كاتبًا منفيًا يعاني من الوحدة في جزيرة ألمانية.
  • العاصفة ترمز إلى تطهير داخلي، واكتشاف رغبة البطل في البقاء.

في عرضه العربي الأول ضمن فعاليات الدورة الخامسة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي، يحضر فيلم “يونان” للمخرج أمير فخر الدين كأحد أكثر الأعمال التي تثير نقاشاً حول معنى الاغتراب، والثقل النفسي للمنفى، والعلاقة المعقدة بين الإنسان والطبيعة بوصفها فضاءً يعيد تشكيل الروح. ومع استقبال الفيلم بحضور بطله اللبناني جورج خباز، بدا واضحاً أنّ العمل لا يُقدَّم كحكاية تُروى، بل كتجربة تُعاش، تُبنى على الإيقاع الهادئ، والصمت الكثيف، وصورٍ تُغرق المتلقي في عالمٍ يختلط فيه الواقع بالأسطورة، والملموس بالمتخيّل.

يبدأ الفيلم من نقطة تكثّف أزمته: كاتب منفي يعيش في هامبورغ تُنهكه الوحدة ويعصف به الإحباط، يتردّد صوته الداخلي كأنفاسٍ قصيرة لا تكمل مسارها. منذ المشهد الأول، نراه في عيادة الطبيب يشكو ضيقاً في التنفس، لكن الفحوص لا تكشف مرضاً عضوياً. هنا يفتح المخرج الباب لساحة أوسع من المرض الجسدي: إنها أزمة وجود، ثقل هوية معلّقة، وذاكرة تتآكل في البعد والمنفى.

يقدّم جورج خباز هذا الانكسار الداخلي بصمتٍ طويل وقامة مثقلة، في أداء يكتسب ثقله من التفاصيل الصغيرة: النظرات التي لا تستقر، الخطوات المترددة، وحمل الجسد كعبء وليس كوسيلة للحياة.

ينطلق بعدها في رحلة نحو جزيرة ألمانية معزولة على بحر الشمال، كأنّه يسعى إلى مكان يمكن فيه أن يختفي بهدوء. الطريق الذي يقطعه بالقطار ثم بالعبّارة ليس مجرد انتقال جغرافي، بل انحدار تدريجي نحو حافة وجودية. الجزيرة، بسهولها الخضراء ورياحها العاتية ومنازلها العالية المبنية فوق تلال صغيرة لحمايتها من فيضانات البحر، تتحول إلى مرآة لمشاعر البطل: أرض تتبدّل دائماً، تُغمر ثم تنكشف، تشبه الغربة التي لا تستقر على حال.

يستقر في نُزل تديره فاليسكا، المرأة الألمانية العجوز التي تجسّد أحد أصدق الأدوار في الفيلم، بشيء من الصرامة والدفء الخفيف، وبتلك القدرة على خلق مساحة آمنة دون أن تفعل الكثير. حضورها ليس حضور «المنقذ» كما قد يُفهم، بل حضور الشخص الذي يرى الإنسان قبل قصته، والذي يتيح للآخر فرصة أن يتنفّس من جديد. ومعها يتعامل المخرج بذكاء، فيترك العلاقة تنمو ببطء، بتردد، وبنصف كلمات، لتصبح لاحقاً نقطة تحوّل في الرحلة.

على خط موازٍ، ينساب خطّ حكائي آخر، قصة الراعي الكفيف الأبكم التي ترويها أم البطل عبر الهاتف، في مشاهد تحضر كأشباح ذاكرة، محمولة بألوان ترابية دافئة وصمت ميتافيزيقي. هذا الخط لا يُقدَّم كحكاية مكتملة، بل كحكاية ممزقة، تشبه ذاكرة الوطن التي لا تتشكّل إلا من الأطراف. يعود الفيلم إلى هذه القصة مراراً، ليس لتطويرها، بل ليذكّر البطل – والمتلقي – بأن هناك سردية ناقصة داخل كل منفيّ، سردية لا تستكمل لأن الأصل نفسه صار بعيداً وضبابياً.

Advertisement

بمرور الوقت، يدخل البطل في نسيج الحياة اليومية للجزيرة. يمر بين الحقول، يراقبه الثيران وكأنها تعكس ارتباكه الداخلي، يواجه صلابة ابن فاليسكا، ويجرب أمان الصمت في مكان يبدو أنه نهاية العالم. يعمل المخرج على تحويل الجغرافيا إلى لغة بصرية: الرياح التي تعصف بالشاشة، البحر الذي يزحف ببطء مخيف، الأفق الرمادي الذي يمنح المشاهد شعوراً بالانفصال عن الزمن. إنها سينما قائمة على الإيقاع الحسي، يتقدّم فيها العمل عبر المناخ لا عبر الحبكة.

ثم يأتي الحدث المفصلي، عاصفة عاتية تهدد بأن تغمر الجزيرة كلها. هنا يبلغ الفيلم ذروته البصرية، في لقطات طويلة بطيئة، تُظهر الأرض وهي تختفي تحت الماء ثم تعود للظهور، الطبيعة تبدو كقوة تطهّر المكان وتعيد ترتيب مصائر شخصياته. هذه العاصفة ليست مجرد حدث خارجي، بل مكاشفة داخلية، يعيد فيها البطل النظر في قراره بالرحيل الأبدي، ويكتشف شيئاً يشبه رغبة ضئيلة في البقاء. مشاهد الفيضان، بما تحمل من رهبة وعظمة، تعمل كاستعارة لروح المنفى: كل شيء يمكن أن يغرق، لكن ما يعود للسطح بعد ذلك هو ما يستحق أن يعيش.

داخل هذا الجو، يترك الفيلم لحظة خفيفة مشبعة بالإنسانية: سهرة في بيت البيرة المحلي، يختلط فيها الغناء الألماني بالموسيقى العربية، في مشهد يقدّم، رغم بساطته، انبعاثاً صغيراً في روح البطل. ليس تحوّلاً جذرياً، بل شرارة أولى.

عندما تنحسر المياه وتستعيد الجزيرة شكلها، نرى تغيراً طفيفاً في ملامح البطل: لم يعد رجلاً يريد الانتهاء من حياته، بل غريباً يتعلم أن يعيش غربته، لا أن يهرب منها. يتأكد المخرج هنا من نقطة محورية: العودة ليست إلى الوطن، بل إلى القدرة على احتمال المسافة معه.

يصل الفيلم إلى نهايته من دون انتصارات صاخبة أو حلول كاملة. يترك البطل واقفاً بين أرضٍ تتبدل وماءٍ يعيد ترسيم الحدود، كتنبيه إلى أن المنفى ليس قطيعة، بل حالة متحركة، وأن الإنسان قد يحمل وطنه كجرح لكنه يستطيع أيضاً أن يجعل منه مساحة للفهم.

بهذا الطرح، يظهر “يونان” في مهرجان البحر الأحمر كعمل يتجاوز السرد التقليدي، يعتمد على أجواء طاغية، ومشاعر متخفية، وصورٍ محسوبة، ليقدّم أحد أكثر الأفلام العربية قدرة على مساءلة معنى الوجود في العالم الحديث. حضور جورج خباز يضيف ثقلاً إضافياً، إذ يحمل الشخصية من الداخل إلى الخارج، ويجعل الفيلم رحلة نفسية قبل أن يكون رحلة جغرافية.

Advertisement