كانت الأغنية المصرية لعقود طويلة رائدة في صناعة النجوم، وصوتًا معبرًا عن الذوق العربي العام، ليس في مصر فقط، بل في العالم العربي كله. من قلب القاهرة خرجت أسماء صنعت تاريخ الغناء الحديث ورسخت حضورها في الوجدان الجمعي العربي. في التسعينيات وبداية الألفية، عاشت الأغنية المصرية واحدة من أزهى عصورها، بفضل مجموعة من النجوم الذين قدّموا مشروعًا فنيًا متكاملاً وحققوا جماهيرية جارفة، ليس فقط عبر ألبوماتهم بل أيضًا من خلال حفلاتهم، وأسلوبهم الفني المتفرد، وقدرتهم على مواكبة التغيير.
في مقدمة هؤلاء كان عمرو دياب، الذي أعاد تعريف الأغنية الشبابية، ومزج بين المحلي والعالمي بأسلوب متجدد جعله يتربع على عرش الأغنية العربية لعقود، ولا يزال حتى اليوم نجم الصف الأول، متصدرًا المشهد بأغنياته وإطلالاته. بجانبه لمع محمد فؤاد، الذي جمع بين الإحساس الشعبي والدراما الغنائية، وارتبط اسمه بأغانٍ عاطفية ووطنية عاشت في قلوب المصريين، ومصطفى قمر، الذي جاء بأغنية خفيفة ومبهجة، وجعل من البساطة والبهجة علامة مميزة لموسيقاه، مقدّمًا أعمالًا أصبحت جزءًا من ذاكرة جيل كامل.
مع مطلع الألفية الجديدة، بدأت الساحة تستقبل أصواتًا جديدة أحدثت نقلة نوعية في المشهد، وفي طليعتها شيرين عبد الوهاب، التي فرضت نفسها منذ أول ظهور كحالة غنائية خاصة، تحمل صوتًا نسائيًا قويًا وحسًّا مصريًا أصيلاً، وتامر حسني، الذي جاء بنموذج مختلف يمزج بين الغناء والتمثيل، ويملك كاريزما جماهيرية مكنته من تكوين قاعدة شعبية واسعة. ولحق بهما في منتصف العقد الأول من الألفية محمد حماقي، الذي رسم لنفسه خطًا متفردًا في الغناء الرومانسي الحديث، ونجح في تحقيق استمرارية جعلته من أبرز نجوم الساحة حتى اليوم.
في هذا العصر الذهبي، كانت الساحة تتسع لاستقبال أكثر من نجم في وقت واحد، وكانت شركات الإنتاج الكبرى مثل “عالم الفن” مع محسن جابر، و”فري ميوزيك” مع نصر محروس، تلعب دورًا محوريًا في اكتشاف الأصوات، وصناعة نجومية حقيقية، وتقديم الفنان للجمهور ضمن مشروع غنائي متكامل ومدروس. كان المنتج وقتها شريكًا حقيقيًا في بناء الفنان، وليس مجرد ممول للعمل.
لكن ما الذي جرى بعد ذلك؟ لماذا توقفت آلة صناعة النجوم في الأغنية المصرية عند حدود هذه الأسماء، دون أن نشهد ولادة جيل جديد يحمل الشعلة بنفس القوة؟

اليوم، ورغم استمرار حضور الكبار في المشهد، فإن الساحة تبدو فارغة تقريبًا من نجوم جدد استطاعوا فرض وجودهم على نطاق واسع. في المشهد النسائي، تواصل أنغام تألقها بثبات، محتفظة بمكانة استثنائية بفضل اختيارات فنية دقيقة وحس موسيقي راقٍ. أما آمال ماهر، فقد اختارت الابتعاد شبه الكامل عن الساحة، ولم تعد تطل إلا بين الحين والآخر بأغنية منفردة أو حفل محدود، ما يجعل حضورها الفني متقطعًا وغير كافٍ لصنع مشروع مستمر. أما بقية الأصوات النسائية الشابة، مثل كارمن سليمان ومروة ناجي وريهام عبد الحكيم، فرغم امتلاكهن أصواتًا مميزة وقدرات فنية حقيقية، إلا أنهن لم يستطعن حتى الآن أن يتحولن إلى نجمات صف أول أو يقدمن مشروعًا غنائيًا متكاملاً، والسبب في ذلك لا يعود إلى ضعف الموهبة، بل إلى غياب منظومة الإنتاج القوية التي كانت تصنع النجم.
على الجانب الرجالي، نشهد محاولات ناجحة إلى حد ما من أصوات مثل أحمد سعد، الذي استطاع خلال السنوات الأخيرة تثبيت حضوره كنجم شعبي قادر على تحقيق الانتشار، وتامر عاشور الذي استقر في وجدان شريحة كبيرة من جمهور الأغنية الرومانسية، ومحمود العسيلي الذي يقدم لونًا خاصًا استطاع من خلاله أن يكون له قاعدة جماهيرية مخلصة. لكن الملاحظ أن هذه الأسماء ليست جديدة فعليًا، فهي موجودة منذ سنوات، وبعضها بدأ مشواره منذ أكثر من عقدين، لكنها لمعَت بشكل أوضح مؤخرًا بفضل اجتهاداتها الفردية وتغير أذواق الجمهور.
أما الجيل الأحدث، فلا يكاد يُذكر إلا في حدود بعض الأصوات التي خرجت من برامج اكتشاف المواهب مثل أحمد جمال، ومحمد شاهين، ومينا عطا، الذين يقدّمون أعمالًا متفرقة على فترات متباعدة، دون مشروع متكامل أو إنتاج مستمر يرسخ حضورهم على المدى الطويل. هؤلاء اجتهدوا في تقديم أغنيات جديدة بين الحين والآخر، لكن غياب شركات الإنتاج التي تتبنى مشروع الفنان وتدعمه بشكل كامل، جعل حضورهم الفني محصورًا في محاولات فردية لا تكفي لصناعة نجومية حقيقية.
تعود أسباب هذا الفراغ إلى عدة عوامل متداخلة. في مقدمتها غياب المنتج الفنان الذي يمتلك رؤية متكاملة لصناعة النجم، كما كان الحال مع محسن جابر أو نصر محروس. هؤلاء كانوا شركاء في بناء اسم الفنان، وليسوا مجرد ممولين لأغنية أو ألبوم. كانوا يؤمنون بالصوت، ويستثمرون فيه، ويرسمون له مسارًا فنيًا متدرجًا، بدءًا من الأغنية، ومرورًا بالظهور الإعلامي، ووصولًا إلى الحفلات والمهرجانات الكبرى. ومع انحسار هذه النوعية من المنتجين، تحولت الساحة إلى اجتهادات فردية وأعمال موسمية بلا مشروع واضح.
ومن جهة أخرى، لعبت الأوضاع الاقتصادية المتدهورة دورًا كبيرًا في تراجع صناعة الأغنية، إذ أصبحت تكلفة إنتاج الأغنية الواحدة، ما بين كلمات وألحان وتوزيع وتسجيل وتصوير، عبئًا ثقيلًا على الفنان الشاب، لا سيما في ظل غياب الشركات الكبرى التي كانت تتحمل هذه التكلفة في السابق. وبدلاً من أن يكون الإنتاج الفني عملية متكاملة تهدف إلى بناء نجم، أصبح رهين الإمكانيات المادية للفنان نفسه، أو محاولات دعم محدودة من شركات صغيرة أو منصات رقمية لا تملك الخبرة ولا القوة الكافية لصناعة نجومية حقيقية.
يضاف إلى ذلك تغير الذائقة الموسيقية للجمهور، حيث صعدت إلى الواجهة أنماط جديدة مثل المهرجانات والراب، التي أصبحت الأكثر انتشارًا بين الشباب. ومع هذا التغير، لم تستطع الأصوات الشابة التي تقدم الأغنية التقليدية أو الطربية أن تفرض نفسها بقوة، خاصة في ظل عدم امتلاكها مشروعًا متماسكًا أو دعمًا إنتاجيًا وتسويقيًا جادًا.
اليوم، تقف الأغنية المصرية أمام مفترق طرق حقيقي. فالجيل الذي صنع مجدها الحديث لا يزال حاضرًا لكنه بطبيعة الحال يسير في المرحلة الأخيرة من مسيرته الفنية. وفي المقابل، لا يوجد جيل جديد مهيأ لحمل الراية ومواصلة المسيرة. وحتى المحاولات الفردية الجادة، سواء من أصوات نسائية أو رجالية، تظل بحاجة إلى منظومة متكاملة تضم المنتج، والشركة، والإعلام، والجمهور، لتعيد صناعة الأغنية إلى مسارها الصحيح، وتخلق حالة فنية جديدة تستطيع أن تعيد للأغنية المصرية ريادتها.
يبقى السؤال: هل ستشهد السنوات المقبلة ميلاد هذا الجيل الجديد؟ أم ستظل الساحة خالية إلا من اجتهادات فردية هنا وهناك لا تصنع تاريخًا ولا تكتب فصلًا جديدًا في مسيرة الأغنية المصرية؟