في صباح يوم 26 يوليو 2025، ومع تسلل خيوط النور الأولى فوق أفق بيروت المتصدّع، لم يفقد لبنان مجرد ملحن، بل فقد ضميره الموسيقي. في تمام الساعة التاسعة صباحاً، وبالتزامن مع بدء قيامة المدينة اليومية من ليلة أخرى من انقطاع الكهرباء والشلل السياسي، توقف قلب زياد الرحباني عن النبض في مستشفى خوري. تحدثت التقارير الرسمية عن نوبة قلبية إثر مضاعفات لحالة مرضية في الكبد، لكن أولئك الذين عرفوا أعماله أدركوا أنه ربما مات ببساطة من لبنان نفسه؛ من فرط ما شهده، ومن حمل الكثير من التناقضات، ومن حب بلدٍ بدا مصمماً على كسر قلوب كل من تجرأ على الحلم بإمكانياته.
وكالأشباح التي تسكن أزقة إسطنبول الضيقة في روايات باموق، طافت روح زياد طويلاً بين عوالم مختلفة: بين العصر الذهبي لمسرح والديه الموسيقي وقسوة واقع لبنان الذي يخوض حرباً مع نفسه، وبين الحزن المصقول في صوت والدته فيروز واللسعة الساخرة في أعماله المسرحية الخاصة. وُلد في 1 يناير 1956 في كنف سلالة الرحباني، خلال فترة لبنان الوجيزة كـ”باريس الشرق”، إلا أنه أمضى حياته في توثيق انزلاقه نحو الجنون الطائفي بدقة الجرّاح وحنان الشاعر.
الوريث الذي رفض إرثه
بصفته ابن فيروز – ذلك الصوت الملائكي الذي أصبح نشيد لبنان غير الرسمي – وعاصي الرحباني، أحد الأخوين رحباني الأسطوريين اللذين حدّثا الموسيقى العربية عبر مزج التقاليد الكلاسيكية الغربية بالإيقاعات الشرق أوسطية، كان بإمكان زياد أن يرث ببساطة إرث والديه كما لو كان عقاراً ثميناً. بدلاً من ذلك، وفي سن السابعة عشرة، لحّن أول أعماله الكبرى “سألوني الناس”، عندما مرض والده أثناء التحضير لمسرحية “المحطة”. لم يكن هذا مجرد عمل أول، بل كان إعلان استقلالية، وإشارة إلى أن الوريث الظاهر سيرسم مساره الخاص عبر متاهة الهوية الثقافية اللبنانية.
بحلول عام 1974، وبينما كان والداه يواصلان إبداع أعمال غارقة في المثالية والرومانسية الفولكلورية، قدّم زياد ذو الثمانية عشر عاماً مسرحية “نزل السرور”. كانت المسرحية كوميديا سوداء عن عمال مصنع يحتجزون رهائن في فندق للمطالبة بحقوقهم، وهو عمل بدا وكأنه يتنبأ بالحرب الأهلية التي ستندلع بعد عام واحد فقط. وحيثما رأى الرحابنة الكبار لبنان أرضاً لأشجار الأرز والقرى الجبلية التي يقطنها فلاحون نبلاء، رأى زياد اللامساواة الطبقية، والفساد السياسي، وعبثية مجتمع يلتهم نفسه.
أصبحت رائعته المسرحية “بالنسبة لبكرا شو؟” التي عُرضت لأول مرة عام 1978، الموسيقى التصويرية لجيل بأكمله عالق بين وعد الثورة وواقع الحرب التي لا تنتهي. أشهر جملة في المسرحية – “يقولون إن الغد سيكون أفضل، ولكن ماذا عن اليوم؟” – لخصت الإرهاق الوجودي للبنانيين الذين انتظروا التغيير طويلاً لدرجة أن الانتظار نفسه أصبح هويتهم الوطنية.
كيمياء الحزن والسخرية
ما جعل أعمال زياد ثورية لم يكن محتواها السياسي فحسب، بل ابتكارها الموسيقي. كان رائداً فيما أسماه “الجاز الشرقي” – وهو مزيج يأخذ التعقيد المقامي للموسيقى العربية ويزاوجه مع حرية الارتجال في الجاز الأمريكي، ليخلق شيئاً ليس شرقياً ولا غربياً، بل لبنانياً بامتياز. أصبح ألبومه “أبو علي” الصادر عام 1978 علامة فارقة لهذا الصوت الجديد، حيث أظهر كيف يمكن لموسيقى الفانك والجاز والأشكال العربية التقليدية أن تتعايش دون أن تفقد هوياتها الفردية.
وكما نسج باموق المنمنمات الفارسية بالواقعية الأوروبية في روايته “اسمي أحمر”، أبدع زياد أعمالاً تتواجد في أبعاد ثقافية متعددة في آن واحد. شكلت موسيقاه لألبومات فيروز اللاحقة، خاصة “وحدن” (1979) و”معرفتي فيك” (1984)، تحولاً جذرياً في مسيرتها الفنية. اختفت الاحتفالات الفولكلورية بحياة القرية، وحلت محلها أغنيات مدينية عن الاغتراب، وأغانٍ أكثر قتامة تعكس الواقع القاسي لبيروت التي مزقتها الحرب.
كان التحول عميقاً. فبعد أن كانت فيروز تغني عن أمجاد الصباح وجداول الجبال، أصبحت تؤدي ألحان زياد عن مسارات الحافلات في مدينة مقسمة (“البوسطة”) والمشهد النفسي لشعب يعيش تحت الحصار. كان الأمر كما لو أن ابنة جبال لبنان قد ولدت من جديد كصوت أرصفة بيروت المحطمة.
الأغنية الأخيرة: عندما سكت ضمير بيروت
عندما انتشر خبر وفاة زياد عبر وسائل التواصل الاجتماعي في ذلك الصباح من شهر يوليو، شهد لبنان شيئاً لم يشعر به منذ سنوات: وحدة حقيقية في الحزن. بحلول الساعة الثامنة صباحاً، كان العشرات قد تجمعوا خارج مستشفى خوري في الحمرا – الحي الذي كان بيت زياد الروحي لعقود. جاؤوا حاملين الورود والصور، يغنون أغانيه، ليخلقوا تأبيناً عفوياً بدا شخصياً للغاية وسياسياً بعمق.
في الساعة التاسعة صباحاً، عندما غادرت سيارة الموتى التي تحمل جثمانه مرآب المستشفى، انفجر الحشد بالتصفيق. لم يكن هذا تصفيقاً مهذباً لقاعة حفلات، بل كان تصفيقاً يائساً من شعب يودع انعكاسه. تحرك الموكب عبر الحمرا، الحي الذي عاش فيه زياد معظم حياته كشخص بالغ، حيث كان يقع استوديو التسجيل الخاص به “نوتة”، وحيث عُرضت مسرحياته لأول مرة في مسارح مثل البيكاديللي. هذه الشوارع، المليئة بالمقاهي والحانات التي كانت تبث موسيقاه يومياً لعقود، أصبحت مسرحاً أخيراً لأعماله.
في بكفيا، في كنيسة رقاد السيدة، ظهرت فيروز علناً للمرة الأولى منذ سنوات. في التسعين من عمرها، وهي ترتدي نظارات شمسية سوداء وحجاباً أسود، استقبلت المئات الذين أتوا لتقديم واجب العزاء. كان آخر ظهور علني لها في عام 2020، عندما زارها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في منزلها ليمنحها أرفع وسام فرنسي. والآن، كانت تدفن الابن الذي لم يكن شريكها الإبداعي فحسب، بل الذي تحدى وأعاد تعريف إرثها الفني.
كان من بين المعزين شخصيات من مختلف أطياف المجتمع اللبناني: سياسيون، فنانون، كتّاب، ومواطنون عاديون نشأوا على كلمات زياد التي شكلت مفرداتهم الخاصة للمقاومة والصمود. مصمم الأزياء إيلي صعب، ووزير الثقافة غسان سلامة، والممثلة جوليا قصار، والملحن مارسيل خليفة – جميعهم جاؤوا لتكريم الفنان الذي أعطى صوتاً لتجربتهم الجماعية في العيش في بلد معلق بين الأمل واليأس.
لعل الجانب الأكثر إثارة للدهشة في إرث زياد هو كيف اكتشفته وأعادت اكتشافه أجيال متتالية. الشباب اللبنانيون الذين لم يروه يؤدي على المسرح مباشرة تعلموا أغانيه من مقاطع فيديو على يوتيوب وأدمجوا تقنياته الموسيقية في الحركات الاحتجاجية المعاصرة. خلال انتفاضة أكتوبر 2019، غنى المحتجون ألحانه جنباً إلى جنب مع هتافات كتبت حديثاً، مما يثبت كيف أصبحت روحه الساخرة جزءاً من الحمض النووي للمقاومة في لبنان.
هذه النهضة بعد وفاته تتحدث عن شيء أعمق من الحنين إلى الماضي. في عصر وسائل التواصل الاجتماعي والاتصال العالمي، وجدت أعمال زياد جماهير جديدة تتعرف في مزيجه بين الأنواع الموسيقية والتعليق السياسي على نموذج لثورتهم الفنية الخاصة. فنانو الهيب هوب يقتبسون ألحانه، والفرق المسرحية تستلهم من أسلوبه الدرامي، والموسيقيون الشباب يحاولون إعادة خلق كيميائه الخاصة التي تمزج بين الموسيقى العربية التقليدية والجاز الارتجالي.
المشهد بعد زياد
المشهد الموسيقي اللبناني الذي يتركه زياد وراءه هو في آن واحد أغنى وأكثر تجزؤاً من الذي دخله في السبعينيات. فنانون معاصرون مثل هبة طوجي يمثلون جيلاً جديداً من المؤدين اللبنانيين الذين أخذوا نظرة زياد العالمية ومضوا بها قدماً. طوجي، التي تعاونت مع فنانين مثل لويس فونسي وقدمت عروضاً في أماكن من أوبرا دبي إلى قاعة كارنيجي، تجسد هوية لبنانية معولمة ساعد زياد في جعلها ممكنة.
مع ذلك، يوضح تعاون طوجي مع عائلة الرحباني من خلال المنتج أسامة الرحباني كيف تستمر السلالة الموسيقية في التطور. تمزج أعمالها بين التأثيرات العربية والغربية والجاز بطرق تردد صدى جهود زياد الرائدة بينما تعالج موضوعات معاصرة مثل الهوية والمنفى والانتماء.
فنانون لبنانيون آخرون يدفعون الحدود التي أرساها زياد في اتجاهات مختلفة. موسيقيو الجاز-فيوجن في المشهد المعاصر يمزجون الموسيقى العربية التقليدية مع الأصوات الإلكترونية، ليخلقوا ما يمكن أن يطلق عليه “موسيقى الانصهار ما بعد الرحبانية”. الفرق المسرحية مثل “زقاق” و”جمعية كهربا” وغيرهما تبنت نموذج زياد في استخدام الأداء كتعليق اجتماعي وسياسي، على الرغم من أنها تعمل في مشهد ثقافي أكثر لا مركزية.
يمتد التأثير إلى ما وراء حدود لبنان. يواصل فنانون في جميع أنحاء العالم العربي استلهامهم من مزيج زياد بين الأنواع الموسيقية والنقد السياسي. من الأعمال التجريبية لليليان شلّالة في مونتريال إلى المؤلفات الطليعية التي تُبدع في مجتمع المهاجرين العرب في برلين، تستمر تموجات ابتكارات زياد في الانتشار.
سؤال الأرض الخصبة
لكن هذا يطرح السؤال الحاسم الذي كان سيثير اهتمام زياد نفسه: هل لا تزال الروح الطليعية التي جسدها تجد أرضاً خصبة في لبنان؟ البلد الذي يتركه وراءه في عام 2025 يعاني مما يسميه الاقتصاديون أحد أسوأ الانهيارات الاقتصادية في التاريخ الحديث. فقدت الليرة 99% من قيمتها، ويعيش أكثر من نصف السكان في فقر، وتوقف النظام المصرفي عن العمل فعلياً. أصبح الشلل السياسي متوطناً لدرجة أن تشكيل حكومة يستغرق أشهراً، وتظل الخدمات الأساسية مثل الكهرباء غير موثوقة.
في هذا السياق، اكتسبت أعمال زياد الساخرة حول عدم الكفاءة البيروقراطية والفساد السياسي صفة نبوية تقريباً. ملاحظته عام 1978 بأن الفساد اللبناني “قد لوّث حتى خلطة السبع بهارات” تبدو بسيطة مقارنة بواقع أصبحت فيه العملة نفسها شبه عديمة القيمة[38]. الجملة من مسرحية “بالنسبة لبكرا شو؟” – “يقولون إن الغد سيكون أفضل، ولكن ماذا عن اليوم؟” – لم تعد مجرد مرجع ثقافي بل أصبحت سؤالاً وجودياً لجيل لبناني بأكمله.
ومع ذلك، فإن الاستجابة الثقافية لهذه الأزمة تشير إلى أن إرث زياد لا يزال حيوياً. إن ظهور فرق مسرحية جديدة، وانتشار الموسيقى التجريبية، والنجاح الدولي المستمر للفنانين اللبنانيين يشير إلى أن الإبداع يستمر حتى في خضم الانهيار. يواصل الفنانون اللبنانيون العمل في المنفى، وفي مجتمعات الشتات، وداخل البلاد نفسها، مبتكرين أعمالاً تعالج الواقع الحالي بينما تستند إلى المفردات الفنية التي ساعد زياد في تأسيسها.
الفصل الأخير لحافظ الذاكرة
ما مثله زياد، أكثر من أي ابتكار موسيقي معين أو تقنية مسرحية، كان طريقة في أن تكون لبنانياً ترفض التصنيف السهل. كان مسيحياً دعم الحقوق الفلسطينية، وشيوعياً أبدع أعمالاً ذات جمال راقٍ، وساخراً احتوى فكاهته على ألم حقيقي. لقد سكن تناقضات الهوية اللبنانية دون محاولة حلها، وبدلاً من ذلك حوّلها إلى فن خاطب جماهير تتجاوز وطنه بكثير.
تتزامن وفاته مع لحظة يبدو فيها بقاء لبنان كدولة متماسكة موضع تساؤل. فالانهيار الاقتصادي والشلل السياسي والتفتت الاجتماعي الذي يميز لبنان المعاصر يمثل تحديات أشد بكثير حتى من الحرب الأهلية التي عاشها زياد. في هذا السياق، يصبح إرثه الفني ليس مجرد ذاكرة ثقافية بل نموذجاً للبقاء – دليلاً على أنه من الممكن خلق الجمال والمعنى وسط الفوضى، والحفاظ على الأمل مع الاعتراف باليأس، وحب مكان مع انتقاد كل شيء فيه.
الأغنية المستمرة
مثل الأشباح في روايات باموق التي تحمل ذكرى عوالم إسطنبول الزائلة، ستظل روح زياد تطارد المشهد الثقافي اللبناني. ستستمر أغانيه في العزف في مقاهي الحمرا، وستظل جمله المسرحية تتخلل الأحاديث اللبنانية، وستظل ابتكاراته الموسيقية تلهم الفنانين الشباب الذين يحاولون فهم إرثهم المتصدع.
ولكن ربما الأهم من ذلك، أن مثاله – المتمثل في النزاهة الفنية الشجاعة، والالتزام السياسي دون جمود أيديولوجي، والإيمان بأن الثقافة يمكن أن تكون ترفيهاً ومقاومة في آن واحد – يقدم نموذجاً لكيفية استجابة الفنانين لتحديات القرن الحادي والعشرين. في عصر يتصاعد فيه الاستبداد عالمياً وتفشل فيه المؤسسات التقليدية، يقدم مزيج زياد بين الفن والنشاط السياسي، وإصراره على أن الجمال والالتزام السياسي ليسا متناقضين بل متكاملين، مخططاً للمقاومة الثقافية.
سيستمر نور الصباح الذي شهد وفاته في الشروق على بيروت، كاشفاً كل يوم عن نفس التناقضات التي أمضى زياد حياته في توثيقها. الفرق هو أن تلك التناقضات تفتقر الآن إلى مترجمها الأكثر بلاغة، ومؤرخها الأكثر جرأة، وناقدها الأكثر رحمة. لقد فقد لبنان حافظ ذاكرته الموسيقية، لكن الذاكرة نفسها – المعقدة، المؤلمة، الجميلة، وفي النهاية غير القابلة للتدمير – تعيش في كل نغمة كتبها، وكل سطر صاغه، وكل حدٍ تجاوزه في سبيل رؤية أكثر صدقاً وشمولاً وإنسانية لما قد يصبح عليه بلده الحبيب والمستحيل.
لا تمثل وفاة زياد الرحباني مجرد ختام لمسيرة فنية رائعة، بل نهاية فصل في تاريخ لبنان الثقافي. ومع ذلك، وككل النهايات العظيمة، فهي أيضاً بمثابة بداية – دعوة لجيل جديد من الفنانين لالتقاط خيط عمله ومواصلة نسج نسيج الهوية اللبنانية المعقد، أغنية تلو الأخرى، مسرحية تلو الأخرى، حلماً مستحيلاً تلو الآخر.
الأغنية الأخيرة: عندما سكت ضمير بيروت
زياد الرحباني يرحل عن 69 عاماً إثر نوبة قلبية، تاركاً وراءه إرثاً موسيقياً ومسرحياً استثنائياً صاغ من خلاله وجع لبنان وسخريته الأليمة.