يشكّل العرض العربي الأول لفيلم “محاربة الصحراء” في مهرجان البحر الأحمر السينمائي في دورته الخامسة لحظة مفصلية في مسار هذا العمل الضخم، ليس فقط لأنه يصل إلى المنطقة التي تنتمي إليها حكايته، بل لأنه يعرض لأول مرة أمام جمهور يتواصل مع جذور الحدث التاريخي الذي يستند إليه الفيلم. فالفيلم الذي انطلق في مساره الدولي من مهرجان زيورخ السينمائي في سويسرا، وحظي بإشادات واضحة بشأن معالجته الملحمية وضخامته الإنتاجية، يجد اليوم في جدة البيئة الطبيعية لعرض يضيف إليه بعدًا جديدًا، إذ يُستقبل في فضاء ثقافي يتقاطع مباشرة مع ذاكرة معركة ذي قار، ويعيد قراءة الماضي عبر عدسة سينمائية معاصرة.
ويأتي إدراج الفيلم ضمن برنامج البحر الأحمر بوصفه واحدًا من أبرز العروض العربية الأولى التي يتوقع أن تثير اهتمام الجمهور والنقاد، نظرًا لطبيعة مادته التاريخية وقدرته على تقديمها في قالب بصري قوي يستند إلى تقنيات إنتاجية متقدمة. ويُدرك المهرجان أهمية عمل كهذا من حيث قدرته على إعادة إحياء سردية عربية بطرح عالمي، وهو ما ينسجم مع توجهات المهرجان، الذي يسعى منذ انطلاقه إلى تقديم أعمال تتجاوز حدودها المحلية، وتستثمر في القصص العربية وتضعها ضمن خرائط الإنتاج الدولي.
الفيلم يستعيد معركة ذي قار، تلك الواقعة التي تُعد واحدة من أبرز المواجهات العربية في مطلع القرن السابع، والتي شكّلت نقطة تحوّل لا يمكن تجاهلها في سياق العلاقة بين القبائل العربية والإمبراطورية الساسانية. غير أن “محاربة الصحراء” لا يتعامل مع الحدث كمجرد مواجهة عسكرية، بل يقدّم العالم المحيط به—سياسيًا واجتماعيًا وإنسانيًا—ضمن سرد درامي يتدرج في بناء الشخصيات وتحفيز دوافعها قبل الوصول إلى لحظة الانفجار.

وتبدأ الحكاية مع توتر العلاقات بين الملك النعمان، الذي يجسد دوره الفنان غسان مسعود، والإمبراطور الساساني كسرى، الذي يؤديه السير بن كينغسلي. ومنذ اللحظات الأولى يتضح أن الفيلم يسعى إلى إبراز التعقيد السياسي الذي يسبق المواجهة، حيث يقف الملك في مفترق طرق بعد رفضه الخضوع لسلطة كسرى. ويضع هذا الرفض المملكة والقبائل العربية أمام تحدٍ جديد، لا تُختزل ملامحه في الساحة العسكرية فحسب، بل في خيارات الشخصيات التي تُدفع تدريجيًا نحو مصائر أكبر منها.
في قلب هذا الصراع، تتقدم شخصية الأميرة هند باعتبارها محورًا سرديًا رئيسيًا. وتؤدي الفنانة عايشة هارت هذا الدور بتجسيد يجمع بين القوة والقلق الداخلي، إذ تُطرح شخصيتها بداية كضحية محتملة لسياسات كسرى الذي ينظر إليها كغنيمة ملكية يجب أن تنتقل إلى بلاطه. وترفض الأميرة هذا المصير بقوة، في موقف يفتح الباب لرحلة تتجاوز بعدها الشخصي لتتحول إلى جزء من معركة تمس كرامة القبائل العربية كلها.
وتشتد الأحداث حين يفرّ الملك النعمان وابنته إلى الصحراء، حيث يظهر اللص الغامض الذي يؤدي دوره أنتوني ماكي. ولا يدخل ماكي إلى القصة بوصفه مجرّد شخصية عابرة، بل يمثل نقطة انعطاف تجمع بين الخطر والنجاة، إذ يلتقي بالأميرة ووالدها في لحظة حرجة تكشف عن طبقات شخصية ترتبط بالماضي، وبحس البقاء الذي يدفعه إلى اتخاذ قرارات غير متوقعة. وتضيف هذه العلاقة خطًا دراميًا ثانويًا يمنح الفيلم بعدًا إنسانيًا، ويخلق توازناً بين الحدث التاريخي والأبعاد الشخصية للشخصيات.
على الجهة المقابلة، يقود شارلتو كوبلي شخصية القائد جلبزين، الذي يطارد الأميرة ووالدها بتكليف مباشر من كسرى. ويقدم كوبلي شخصية ذات حضور قوي، مزوّدة بخلفيات نفسية وسياسية تجعل مطاردته أكثر تعقيدًا من مجرد مهمة عسكرية. ويُبرز الفيلم كيف يتحول الصراع الفردي بين الشخصيات إلى انعكاس لصراع أكبر بين إمبراطورية تبحث عن تثبيت هيمنتها وقبائل تحاول الدفاع عن وجودها وهويتها.
ومع مرور الوقت وتعقّد الرحلة في الصحراء، تتكشف أبعاد جديدة للأميرة هند، التي تنتقل من خانة الضحية إلى شخصية قيادية تتبنّى فعل المقاومة، وتبدأ في صياغة تصور جديد لوحدة القبائل. ويُظهر الفيلم هذا التحول بوتيرة مدروسة، بعيدًا عن أي مبالغات، ما يمنح الشخصية مساحة واقعية للنمو والتطور، ويعطي الجمهور فرصة لفهم آليات تحوّلها إلى رمز جديد في مواجهة الساسانيين.
وعلى المستوى البصري، يحمل الفيلم بصمته الخاصة، خاصة مع تصوير مشاهده الأساسية في نيوم وتبوك داخل المملكة العربية السعودية. وقد استفاد العمل من اتساع الصحراء وأفقها المفتوح في تقديم مشاهد ملحمية ذات حضور بصري واضح، حيث تتحول الطبيعة إلى عنصر فاعل في القصة، تُؤطر رحلة الهرب والمطاردة، وتُعطي مشاهد المعركة ثقلًا واقعيًا يتجاوز حدود المؤثرات البصرية. ويعتمد الفيلم على بناء جمالي ينتمي إلى سينما المغامرات التاريخية، مع اختيار زوايا تصوير تبرز قسوة البيئة وتفاعل الشخصيات معها، لتتحول الصحراء إلى مساحة سردية لها لغتها الخاصة.
ومن الناحية الدرامية، يستند الفيلم إلى سيناريو كتبه روبرت ويات بمشاركة إيريكا بيني وديفيد سيلف، وهو سيناريو يجمع بين الدقة في استلهام المراجع التاريخية والخيال الذي يُضفي على الحدث بعدًا دراميًا متماسكًا. ويُظهر البناء السردي ميلًا إلى خلق توازن بين الحدث التاريخي والشخصيات، بحيث لا تطغى المعركة على الدراما، ولا تبقى الدراما منفصلة عن سياقها الكبير.




