بدت نادين لبكي في جلستها الحوارية بمهرجان البحر الأحمر السينمائي، التي أدارها أنطوان خليفة، كأنها تعيد قراءة مسارها الفني من نقطة أبعد من السينما نفسها. كانت تتحدث عن التجربة قبل الفيلم، عن الحياة قبل اللقطة، وعن اللحظة التي يتكوّن فيها الهاجس الأول الذي سيقودها لاحقاً إلى مشروع طويل. ما يشغلها ليس السؤال: «ما القصة؟»، بل السؤال الذي يسبقها: «لماذا تحضر هذه الفكرة تحديداً؟ ولماذا تصرّ على مرافقتي؟».
تقول إن الأمر يبدأ غالباً من فترة غامضة، يلازمها فيها إحساس واحد يعود كل يوم بصورة مختلفة. تراه في موقف عابر، في نظرة طفل، في حدث سياسي، أو في مشهد عائلي شخصي. هذا الإحساس يتحول بالتدريج إلى شغف، ثم إلى هوس يمنعها من تجاهل الموضوع. وعندما تبدأ الكتابة، تكون قد قطعت الجزء الأهم من الرحلة، لأن ما تبحث عنه ليس الخط الدرامي بقدر ما تبحث عن الموضوع الذي يجب أن تخدمه القصة، مهما تغيّرت الشخصيات أو تبدلت الحبكة.
وتروي أن المراحل الأولى من كل فيلم كانت مرتبطة بتحوّلات عاشتها بشكل مباشر. فقبيل «هلّا لوين»، كانت الحرب في 2008 تُلقي بظلالها على الشوارع اللبنانية، وكانت تتجوّل مع ابنها وسط توتر يشبه لحظة ما قبل الانفجار. خطر في بالها سؤال بدا بسيطاً في شكله، لكنه قاسٍ في معناه: «ماذا لو كبر ابني في بلد لا يمنحه خياراً سوى حمل السلاح؟». من هذا الخوف خرج الفيلم، لا من الفكرة النسوية وحدها، بل من قلق الأم التي تشعر أن الحرب قد تُسرق من أطفالها مستقبلهم.
أما «كفرناحوم»، فلم يبدأ من قرار فني، بل من تراكم مشاهد يومية. كانت ترى الأطفال الذين يعيشون في الشوارع، وتلاحظ نظراتهم التي تسبق لغتهم. كانت تتساءل: كيف ينظر هؤلاء الصغار إلى من يمر أمامهم؟ هل يرون العالم كما نراه؟ وهل يشعرون بالوقت بالطريقة نفسها؟ ثم تحوّل السؤال إلى سنوات طويلة من البحث. خمس سنوات، كما قالت، كانت خلالها تقضي ساعات في المناطق المهمشة، تُنصت أكثر مما تتكلم، وتتعلم كيف تتسلل التصرفات الإنسانية من بين الفراغات، وكيف تتشكل القسوة في بيئات لا تحمي أطفالها.

وتشير إلى أن الكتابة بالنسبة إليها ليست مجرّد مرحلة تقنية، بل شبكة علاقات إنسانية. فهي لا تكتب وحدها إلا في المراحل الأولى، ثم تحتاج إلى مجموعة تشاركها المبادئ نفسها. تستمتع بما تسميه «التنفس المشترك»، حيث يكتب الفريق لأسابيع ثم يتوقف لأشهر قبل أن يعود دون موعد محدد. ترى أن الزمن جزء من هوية القصة، وأن الإسراع في الكتابة يشبه اقتلاع نبتة قبل أن تتجذر.
وتستطرد قائلة إن عملية اختيار الممثلين هي امتداد طبيعي لفلسفة الصدق التي تلتزم بها. فالأطفال وغير المحترفين الذين يظهرون في أفلامها ليسوا مجرد أدوار، بل أشخاص يحملون الحياة التي تريد أن تُنقل إلى الشاشة. بحثها عن بطل «كفرناحوم» كان طويلاً، لأنها لم تكن تريد وجهاً يؤدي الألم، بل وجهاً عاشه، أو على الأقل يعرفه عن قرب. لذلك تعتبر مرحلة الكاستينغ جزءاً من بناء العالم، لا خطوة جانبية.
وتضيف أنها خلال التصوير لا تفكّر في الفيلم كمنتج نهائي، بل كرحلة يعيشها جميع أفراد الفريق. تراقب دوافع الشخصيات كما لو أنها تدرس البشر خارج السينما: كيف يتحركون، كيف يفكرون، ومتى يتغيّر سلوكهم. هذه المراقبة هي ما يجعلها متعلقة بالطبيعة الإنسانية، فهي لا تبحث عن المشهد الكامل، بل عن اللحظة التي يتم فيها التقاط جوهر الإنسان.
وتتوقف مطولاً عند تجربتها التمثيلية في «وحشتيني»، وتقول إنها واحدة من أكثر التجارب التي أثرت فيها، لأنها جعلتها تقترب من هشاشة الممثل. شعرت للمرة الأولى بما يعنيه أن تواجه الكاميرا وأنت محمّل بتقلباتك الداخلية. كما أن العمل مع البطلة الفرنسية منحها نظرة جديدة إلى التفاصيل الصغيرة التي لا يراها المخرج عادة، لأنها مختبئة داخل الأداء نفسه.
ولم تُخفِ إيمانها بأن السينما تملك دوراً أخلاقياً وإنسانياً. فهي ليست وسيلة للعرض فقط، بل وسيلة لإعادة تشكيل وعي المشاهد. ورغم أن تجربة صناعة الفيلم في العالم العربي لا تزال، كما وصفتها، «خجولة»، وتفتقر إلى تمويل مستقر، فإنها لم تشعر يوماً بأن هناك من يحاول توجيه أعمالها، لأن كل فيلم يأتي من منطقة شخصية جداً، تحكمها ظروفها الخاصة وتعكس صدقاً لا تسمح بأن يخضع لاعتبارات جانبية.
وتوضح أن ما يجذبها دائماً هو «سينما الإنسان»، السينما التي تتبع السلوك الإنساني أينما قادها، وتضيء تلك اللحظات التي تتصارع فيها المبادئ مع الظروف. تأثرت كثيراً بالمدرسة الإيرانية في إدارة الممثلين، ووجدت فيها منهجاً يعتمد على البساطة والعمق معاً، وعلى احترام حقيقة الشخص أمام الكاميرا.
وعن بداياتها، تقول إنها لم تتعلّم على يد مخرجين، ولم تدخل مواقع تصوير سينمائية حقيقية قبل أن تصنع أفلامها الأولى. تعلمت عبر الإعلانات والكليبات، حيث اختبرت الإيقاع البصري، وتعلمت كيف تتحرك الكاميرا وكيف تُبنى اللغة البصرية من خلال الثواني القصيرة. هذه التجارب انتقلت معها إلى السينما، فأصبحت جزءاً من لغتها الإخراجية.
وتشير إلى أنها تميل إلى الثقافات المتعددة، وتطمح أن يصوَّر فيلمها القادم في أكثر من بلد، وتقول إن هاجسها الدائم هو المرأة وقصصها، وإن الزمن الحالي الذي يختلط فيه الصح بالخطأ يجعل من مبادئها الشخصية مرجعها الوحيد في اتخاذ قراراتها الفنية.وفي نهاية الجلسة، تحدثت عن علاقتها بزوجها خالد مزنّر، الذي وصفته بـ«رفيق الدرب». يرافقها منذ لحظة الفكرة الأولى، ويشارك في خلق الموسيقى التي تعتبرها جزءاً من تكوين الشخصية في الفيلم، لا مجرد خلفية. تختلف معه كثيراً، وتتصادم وجهات النظر، لكنهما يصلان في النهاية إلى نبرة مشتركة، كأن الموسيقى والصورة كانتا تنتظران هذا الاتفاق لكي يكتمل الفيلم.




