تلتقط الشمس لمعانَ الكثبان الرملية الذهبية وهي تتهادى نحو مياهٍ فيروزية، وفي مكانٍ ما بين قمم الجبال العتيقة وشُرَف المنتجعات الفاخرة، تهمس رأس الخيمة بألذّ أسرارها. هنا تعيش الروحُ culinaria للعربية وتتنفّس – مَشهدٌ تتصاعد فيه أبخرة الزعفران من مطابخ تقليدية، فيما يُعيد طهاةٌ معاصرون ابتكار وصفاتٍ ضاربةٍ في القِدم تحت سماءٍ مرصّعة بالنجوم.
ادخل أي مقهى تقليدي على طول شارع الجزة، وسيحملك عبقُ “البِزار” قروناً إلى الوراء. فليس مجرد بهار، بل تراثٌ مأكول: مزيجٌ عطِر من الفلفل الأسود والهيل والقرفة والكمّون واليانسون النجمي، ظلّت الجدّات الإماراتيات يطحنْنه يدوياً جيلاً بعد جيل. تحتفظ كل عائلة بنِسبها السرّية، فتولد بصمات نكهةٍ متفرّدة تُحوّل مكوّناتٍ بسيطة إلى تجارب استثنائية.
في مطاعم مثل “إشحافان فريج” (Eshhafan Fareej Restaurant)، يتكرّر الطقس يومياً: تُغسل الحبوب العطرية وتُجفّف تحت الشمس حتى تفوح رائحتها من بُعد، ثم تُحمّص وتُطحن لتُطلق زيوتها التي شكّلت عصب الطبخ الإماراتي لقرون. هنا يأتي “المجبوس” سيمفونية قدرٍ واحدة—لحم أو دجاجٌ طريّ يغفو في أرزّ معطّر بالزعفران، تُعطّره اللوميّاتُ المجففة بحموضةٍ مميّزة. تلمع الحَبّات بالسمن، وتنفلت مع كل لقمة طبقاتٌ من الهيل والقرنفل والقرفة ترقص على الحنك.
ويحكي دفء «الهريس» قصص الصبر الصحراوي والاحتفال. إنها عصيدةٌ عتيقة تُطهى ببطءٍ لساعات حتى يصير القمح واللحم كتلةً حريرية ذهبية، تحمل روح أمسيات رمضان وأعراس الأمس. قوامها وثير، تُتبّل بملحٍ وزبدةٍ فحسب، لتسطع الحلاوةُ الطبيعية للحبوب—طبقٌ يغذّي الجسد والروح معاً.
أما «الثريد»، ففطيرةُ الإمارات المفضّلة، فتُبرز عبقرية استخدام “الرِّقاق” – خبزٌ رقيق كالورق يمتصّ يخناتٍ غنيّة متبّلة. تخيّل لحماً وخضاراً تُطهى في مرقٍ عطِر، تُسكب فوق رقاقٍ مقرمش يتحوّل إلى طبقاتٍ حريرية؛ كل لقمة تزاوجٌ مثالي بين القوام والنكهة.
سيمفونيات الساحل: صيدٌ طازج وهواءٌ مالح
يروي الساحل حكايةً أخرى للذائقة، مكتوبةً بحراشفٍ فضية ورذاذ بحر. في «شور هاوس» داخل الريتز-كارلتون، تتحوّل عروض صيد اليوم إلى فنٍ درامي. يصل “الهامور”، جوهرة الخليج، مشوياً على اللهب بقشرةٍ تُقرمش لتكشف لحماً طرياً حلواً في الداخل. كثيراً ما يُحضَّر على طريقة “المحمر” – سمكةٌ كاملة متبّلة تُقدَّم مع بصلٍ مكرملٍ وأرزٍّ أصفر سكّري يخلق توازناً شيّقاً بين الحلاوة والمالح.
وفي “شرِمب بوت سي فود” (Shrimp Pot Seafood Restaurant) في ميناء العرب، يصير الأكلُ مسرحاً لعِبياً؛ روبيانٌ وبلح بحر وسرطان يصلون في دلاءٍ ملوّنة، مغمورين بصلصاتٍ جريئة متوّهجة تتوشّح بها الأصابع والشفاه طبقاتٍ من حرارةٍ وأومامي. الأجواء الحميمية غير المتكلّفة تشجّع على ترك الرسميات جانباً والانغماس بالأيدي في أكوام محمولةٍ بالعطر، فيما الأمواج على بُعد أمتار.
وتقدّم أماكن محلية مثل «لؤلؤة بحري» (Luluat Bahriy) تقليد «من السوق إلى المائدة” على أصوله. صيدُ اليوم – فضيّ البُمفريت أو الأحمَر السِنّاري – يُشوى فوق نارٍ مكشوفة، متبّلاً بتوابل عربية تصعد رائحتها مع نسيم البحر. تُقدَّم السمكة بحلاوة البحر الطبيعية معزَّزة – لا مموّهة – بلمساتٍ رقيقة من الكركم والكزبرة واللوميّ المجفف.
كيمياءٌ عصرية… حين يلتقي التقليد بالابتكار
تحوّلت منتجعات الإمارة الفاخرة إلى مختبرات لتطوّر النكهات، حيث يكرّم الطهاة العالميون التقاليد المحلية وهم يضيفون لمساتٍ معاصرة. في “أُومي” (UMI) بفندق والدورف أستوريا، تلتقي الدقة اليابانية بنكهات الخليج على نحوٍ غير متوقّع: هاماشي بدرجة ساشيمي تُلامسه عسلٌ محلي، أو هامور بصلصة الميزو يبني جسراً بين عالمين. وعلى صفيح التيبانياكي، يَشْوي اللهب لحم واجيو جنباً إلى جنب مع روبيانٍ محلي مفروكٍ بالبهارات—كل طبقٍ حوارٌ بين ثقافات.
وفي “ميكونغ” (Mekong) بأنانتارا، تتجلّى سحرُ جنوب شرق آسيا بمكوّنات ساحل الخليج: سمكٌ محلي يتحوّل إلى طبخاتٍ فيتنامية مطهية على البخار مع عشب الليمون وأعشاب عربية، فيما يكتسب “توم يام” عمقاً من بهاراتٍ إقليمية تضفي دفئاً دون أن تطغى على توازنه الدقيق.
أما “ليكزينغتون غريل آند بار” (Lexington Grill & Bar)، فيحتضن مفهوم الستيك هاوس النيويوركي تقاليد الضيافة الإماراتية: لحمٌ مُعتّق جافاً يصل مع تمرٍ محشوّ بجبنة زرقاء، وتضم قائمة المشروبات مزاوجاتٍ مفاجئة مع “جلاب” تقليدي ينعش الحنك بين الأطباق الدسمة.
ثقافة القهوة وحلوى الإغراء
ينبض مشهد المقاهي في رأس الخيمة بإيقاع الحياة اليومية، حيث تُشكّل «القهوة العربية» شراباً وطقساً في آن. في أماكن تقليدية مثل “المقهى التقليدي” (Traditional Coffee Shop)، تحتضن فناجين صغيرة بلا مقابض شعراً سائلاً – حبوب قهوة تُحمّص مع الهيل والزعفران لتصنع شراباً كهرمانياً يجسّد الضيافة نفسها. كل رشفةٍ عمقٌ ترابي تعقبه نغماتٌ زهرية تبقى بعد أن يفرغ الفنجان.
وتزدهر التأويلات الحديثة في أماكن مثل “سبيس كافيه” (Space Café)، حيث تلتقي المشروبات المستوحاة من العربية بثقافة القهوة المعاصرة: لاتيه الزعفران يتحوّل إلى دلالٍ ذهبي، ومشروبات الورد-هيل الساخنة تمنح عزاءً في أكوابٍ خزفية تُطلّ على القِرم. ويضيف “توكانو كوفيط” (Tucano Coffee) لمسةً كولومبية، لكن الأثر المحلي حاضرٌ في القهوة الباردة المحلّاة بالعسل والمعجنات المُرصّعة بالتمر.
وتتمحور السنّة الحلوة حول “التمر” – ليس كمكوّن فحسب، بل كتابعٍ ثقافي. تمر المدجول المحشوّ بقِشور البرتقال المسكّرة أو اللوز هدايا مترفة، و«الدِبس» (شراب التمر) يُحوّل الخبز البسيط إلى حلوى. أما العسل المحلي – خصوصاً الأنواع النفيسة من خلايا جبال الإمارات القريبة—فيضيف تعقيداً زهرّياً إلى حلوياتٍ تقليدية مثل “خبز الشواب”/”الشباب” (chabab) الذي يخرج من الصاج ذهبياً معطّراً بالهيل.
حيث تلتقي الصحراء بالبحر
ما يجعل مشهد الطعام في رأس الخيمة استثنائياً ليس الأطباق أو المطاعم منفردةً، بل الطريقة السَلِسة التي يرقص فيها التراث مع الابتكار عبر كل وجبة. في يومٍ واحد، قد تبدأ بخبز “الخمير” مرشوشٍ بعسل الجبال في مقهى عائلي، وتتابع بسمكٍ مشوي على الشاطئ في كشكٍ تلامس فيه الرمالُ أصابعك، وتختم بتفسيرٍ من مطبخ الجزيئات للمجبوس” في مطعم منتجعٍ يفكّك التقليد إلى فنٍّ مأكول.
وتحكي أسواق التوابل قصصها بالرائحة واللون: أهرامات الكركم تلتقط ضوء الصباح، وحبّ الهيل يبوح بأسراره حين تُكسر حَبّاته بين الأصابع، وخيوط الزعفران – ثمنها وزنها ذهباً – تضيف شمساً لكل طبقٍ تمسّه. تنتقل هذه المكوّنات من السوق إلى المطبخ إلى الطبق، حاملةً قروناً من التقليد في حمضها العطري.
يعكس هذا المشهدُ culinaria روحَ الإمارة نفسها – متجذّرٌ في تقاليد أصيلة لكنه يعانق المستقبل بثقة. ما زال الصيادون المحليون يأتون بصيدهم اليومي إلى مطاعم الشاطئ حيث تلتقي تقنيات الشواء الموروثة بجماليات التقديم المعاصر. وتُلهم وصفات الجدّات في “البِزار” طهاة المنتجعات لصياغة خلطاتٍ حديثة تُكرم الماضي وتخاطب أذواقاً عالمية.
وتكمن الحقيقة السحرية في اللحظات التي تجتمع فيها كل هذه العناصر: حين تجلس على شرفةٍ مطلّة على البحر يتردّد فيها الأذان فوق الماء، وتتقاسم صحون لحمٍ متبّلٍ بالتوابل مع غرباء يصيرون أصدقاء، أو تكتشف أن أكثر مطاعم المدينة ابتكاراً يستمدّ عسله من خلايا الجبال نفسها التي كانت تُزوّد قوافل التجارة العتيقة. في رأس الخيمة، تصير كل وجبةٍ رحلةً عبر الزمن والتقليد والإمكانات اللامتناهية التي تولد حين يلتقي التراث بالذائقة الحديثة.
هنا لا تلتقي الصحراء بالبحر وحسب—بل تخلقان معاً شيئاً جديداً، أصيلاً على نحوٍ شهيّ، ولا يُنسى. هنا يصبح المذاقُ ذاكرةً، وكل لقمةٍ حكاية، ويُكتب مستقبل المطبخ العربي طبقاً استثنائياً بعد آخر.