شارع المتنبي… قلب بغداد النابض

بينما تمشي في شارع المتنبي في بغداد، تختلط رائحة الورق القديم برائحة القهوة العربية القوية، فيما يرتب باعة الكتب بضائعهم تحت أشعة الشمس الصباحية. هذا الشارع الضيّق، الذي لا يتجاوز طوله كيلومترًا واحدًا، ليس مجرد سوق — بل هو الروح الفكرية لمدينة اجتازت قرونًا من النصر والمأساة. شارع المتنبي: إرث أدبي يعود تاريخ شارع المتنبي…

فريق التحرير
فريق التحرير

بينما تمشي في شارع المتنبي في بغداد، تختلط رائحة الورق القديم برائحة القهوة العربية القوية، فيما يرتب باعة الكتب بضائعهم تحت أشعة الشمس الصباحية. هذا الشارع الضيّق، الذي لا يتجاوز طوله كيلومترًا واحدًا، ليس مجرد سوق — بل هو الروح الفكرية لمدينة اجتازت قرونًا من النصر والمأساة.

شارع المتنبي: إرث أدبي

يعود تاريخ شارع المتنبي إلى العصر العباسي، حين أضحى أوّل سوق لتجارة الكتب في بغداد. افتُتِح رسميًا عام 1932 على يد الملك فيصل الأول، وسُمي باسم أبي الطيّب المتنبّي، الشاعر العربي الشهير في القرن العاشر، والذي يُعدّ من أعظم شعراء اللغة العربية. وُلِد في الكوفة عام 915م، واشتهر بذكائه الحاد وفصاحته وشعره الفلسفي الذي لا يزال يتردّد صداه في العالم العربي حتى اليوم.

يُمثّل الشارع شهادة حيّة على العصر الذهبي لبغداد، عندما كانت مغناطيسًا للفلاسفة والعلماء والمفكّرين من شتى بقاع العالم. ففي بيت الحكمة العباسي تُرجمت الفلسفة اليونانية إلى العربية وازدهرت العلوم، مما جعل بغداد مركزًا دوليًا للعلم والثقافة. ونشأت عنه المقولة العربية الشهيرة: “القاهرة تكتب، بيروت تنشر، وبغداد تقرأ”.

شارع المتنبي: صورة مصغّرة لثقافة شاملة

ولا يزال شارع المتنبي اليوم يعجّ بالزوار منذ الصباح الباكر وحتى قرب منتصف الليل: شعراء، كتّاب، فنّانون، طلاب، وسياح من مختلف أنحاء العالم. تصطف على جانبيه مكتبات بألوان زاهية، وواجهات من الطوب والألاجيق الحديدية المزخرفة، مما يشي بجسور عابرة بين الماضي والحاضر.

تقول الشاعرة والصحفية شذى فرج، والتي أصبحت زائرة دائمة للشارع: “إنه مكان نعيش فيه مجدّدًا لأننا نشعر بجمال العراق وتاريخه”. يحتضن الشارع أبوابًا لمعارض فنّية، وحفلات افتتاح معارض، ومهرجانات ثقافية.

وعند قلب المشهد يقع مقهى الشابندر الأيقوني، الذي تأسّس عام 1917 في مبنى كان سابقًا مطبعة للتاجر عبد المجيد الشابندر. على مدار أكثر من قرن، كان هذا المقهى ملتقى للمثقفين، يجلسون على مقاعد خشبية تحيط بها صور تشهد على تاريخ العراق المتقلب. ومنذ تولّيه إدارته عام 1963، قرّر محمد الخشّالي حظر جميع الألعاب داخل المقهى ليضمن بقاءه ساحة للنقاش الفكري العميق.

شارع المتنبي: تقاليد يوم الجمعة

كل يوم جمعة، يتحوّل شارع المتنبي إلى سوق كتب نابض بالحياة، وهو تقليد دام منذ الثمانينيات. يعرض البائعون كتبًا قديمة وحديثة بأسعار متفاوتة، مما يصنع مأدبة ثقافية لهواة القراءة. وما يميّز هذا السوق الأسبوعي هو تنوّع العناوين، بما في ذلك الكتب النادرة والمطبوعة التي يصعب العثور عليها في أي مكان آخر ببغداد.

لم يعد هذا الحدث مجرد مناسبة تجارية، بل أصبح فعالية ثقافية يُعرض فيها الموسيقيون والمغنيون والفنانون مواهبهم أمام الجمهور. كما تنظّم دور النشر مثل دار المدى ورش عمل وفعاليات تجذب الحشود، وتزيد من زخم النهضة الثقافية المتجددة في بغداد.

شارع المتنبي: تدمير وبعث جديد

في 5 مارس 2007، اهتزّ شارع المتنبي بانفجار سيارة مفخّخة أودى بحياة العشرات، وأُصيب فيه المئات، فضلاً عن تدمير العديد من المحالّ التجارية. ودُمّر مقهى الشابندر بالكامل، كما قُتل خمسة من أبناء صاحبه. كما فقد المشهد برمز الثقافة العراقية محمد حياوي، أشهر بائع كتب في الشارع.

وكتب أحد الشهود على الحادثة: “لقد انكسر قلب بغداد.” كان الهجوم متعمّدًا، هدفه قمع حرية التعبير وتبادل الأفكار.

لكن، بروح بغداد الأبية، رفض الشارع أن يبقى خرابًا. استغرق إصلاح الأضرار عامًا واحدًا، وأُعيد افتتاحه في ديسمبر 2008 بحضور رئيس الوزراء آنذاك. وقد أثار الهجوم تضامنًا عالميًا، فظهرت مبادرة “شارع المتنبي يبدأ من هنا” في سان فرانسيسكو، حيث جُمِعت أعمال فنية وأدبية تضامنًا مع ساحة الثقافة البغدادية، وشهدت معارض ومطبوعات على هذا الصعيد.

وفي ديسمبر 2021، مرّ الشارع بتجديد مهمّ آخر بدعم من القطاع المصرفي الخاص، ليبدأ فصلاً جديدًا في تاريخه. وحتى أنه قُدّمت عروض ألعاب نارية احتفالًا بهذا الاحتفاء التاريخي الجديد، تعبيرًا عن روح الحرية الفكرية التي يحملها هذا الشارع.

شارع المتنبي: رمز للصمود

اليوم، يظلّ شارع المتنبي رمزًا قويًا لصمود بغداد. فعلى الرغم من عقود الحروب والعنف الطائفي والتقلبات السياسية، لا يزال هذا الملجأ الأدبي يصمد. ويجسد الشارع القول العراقي: “القارئ لا يسرق، والسارق لا يقرأ” — شهادة على الثقة والاحترام المتبادل في هذا الفضاء الثقافي.

ومع تحوّل بغداد إلى مركز نهضة ثقافية، وظهور معارض جديدة ومهرجانات وعروض مسرحية في أرجائها، يبقى شارع المتنبي في قلب هذه الحركة المتجددة. وفي عام 2015، أعلنت منظمة اليونسكو بغداد “مدينة الأدب”، اعترافًا بمساهمة هذا الشارع في الإرث الأدبي للمدينة.

وعندما تمشي في شارع المتنبي اليوم، تشهد روح بغداد التي لا تُقهَر، مدينة لا تسمح للعنف بإطفاء لهيبها الفكري. كما قال الشاعر العراقي ياسر عمر باقتدار: “شارع المتنبي هو بغداد الإبداعية الحقيقية التي تنتشر كحلم”. في رماد الكتب المحترقة ينبثق طائر الفينيق الثقافي من جديد، ليذكّرنا أن الأفكار – مثل المدينة نفسها – لا يمكن أن تُدمَّر حقًا.