أعلنت الهيئة الملكية لمحافظة العلا عن اكتشاف أثري فريد لمدينة النطاة، مدينة محصنة من العصر البرونزي تقع في واحة خيبر شمال غرب السعودية، ويعود تاريخها إلى نحو 4000 عام، ما يعيد رسم ملامح التاريخ الحضري في الجزيرة العربية.
كشف علمي وتعاون دولي
جاء هذا الإنجاز ضمن مشروع “خيبر عبر العصور”، بالتعاون مع المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي، بقيادة الدكتور غيوم شارلو والدكتورة منيرة المشوح. وقد نُشرت تفاصيل الاكتشاف في مجلة “بلوس ون” العلمية، مؤكدةً الدقة والمنهجية في التوثيق.
معمار متطور وتخطيط محصّن
تقع المدينة في الطرف الشمالي من واحة خيبر، وتغطي مساحة 2.6 هكتار، محاطة بأسوار حجرية بطول 15 كم. تضم المدينة مناطق سكنية وإدارية ومقابر، وتحتوي على 50 إلى 70 منزلاً بنيت بنمط موحد، مع شوارع ضيقة. كشفت التنقيبات عن أساسات متينة تدعم منازل متعددة الطوابق، وتقنيات بناء متقدمة بالحجر الجاف.
تسلسل زمني غني
مرت النطاة بثلاث مراحل استيطان رئيسية:
- المبكرة (2419-2135 ق.م): بناء أولى الوحدات المعمارية.
- الوسطى (1964-1647 ق.م): تشييد الأسوار ونشاط سكني مكثف.
- المتأخرة (1488-1334 ق.م): عمليات ردم وإعادة استخدام وتعزيز التحصينات.
أهمية حضارية واجتماعية
يؤكد الاكتشاف انتقال السكان من حياة الرعي إلى التحضر المستقر، ويكشف عن مجتمع متقدم نسبياً، حيث عُثر على أدوات معدنية وأحجار كريمة في المقابر، وقطع فخارية تعكس توازناً اجتماعياً. كما كانت النطاة جزءاً من شبكة واحات تجارية، ويُقدر عدد سكانها بنحو 500 نسمة.
منهجية علمية متقدمة
استخدم الباحثون تقنيات استشعار عن بُعد والتصوير الجوي، إلى جانب مسوحات ميدانية وتنقيبات دقيقة. خضعت المواد المكتشفة لتحاليل مخبرية شملت الحمض النووي البيئي وفحص بقايا النباتات وتصنيف آلاف القطع الفخارية.
سياق إقليمي وتأثير عالمي
ازدهرت النطاة بالتزامن مع مدن الشام وشرق المتوسط، ما يعكس التداخل الحضاري في المنطقة. وتقدم المدينة نموذجاً للتحضر التدريجي في شمال الجزيرة، بعيداً عن النماذج السريعة في بلاد الرافدين.
إعادة كتابة التاريخ
يساهم اكتشاف النطاة في إعادة تقييم تاريخ شمال غرب الجزيرة العربية، باعتبارها موطناً لمراكز حضرية مزدهرة، وليس مجرد مناطق بدوية. ويمثل إضافة نوعية للدراسات الأثرية العالمية حول المجتمعات القديمة في البيئات الجافة.
آفاق مستقبلية وسياحة ثقافية
تواصل الهيئة الملكية للعلا بالتعاون مع الشركاء الدوليين أعمال البحث والتنقيب، ضمن رؤية السعودية 2030 لتعزيز السياحة الثقافية وربط مواقع مثل العلا وتيماء وخيبر، لتشكيل متحف حي يجسد تاريخ الممالك القديمة.
يؤكد هذا الاكتشاف أن المملكة العربية السعودية كانت ولا تزال حاضنة لحضارات إنسانية عريقة، ويعيد تسليط الضوء على عمقها التاريخي والحضاري.