كشفت دراسة علمية حديثة عن أول دليل جيني مباشر على الروابط الجينية بين الحضارات المصرية القديمة والشرق الأوسط، من خلال تحليل أقدم حمض نووي لمصري قديم عُثر عليه حتى الآن.
اختراق علمي بعد أربعة عقود من المحاولات
حقق باحثون من معهد فرانسيس كريك وجامعة ليفربول جون مورز إنجازاً كبيراً، حيث تمكنوا من إجراء أول تسلسل جينومي كامل لمصري عاش قبل نحو 4500 إلى 4800 عام، وهي فترة شهدت بناء أول الأهرامات.
نُشرت نتائج الدراسة في مجلة “نيتشر”، وتمثل إنجازاً بعد محاولات استمرت أربعين عاماً لاستخلاص الحمض النووي من مومياوات مصرية قديمة. ساهمت الظروف المناخية القاسية، بما في ذلك الحرارة والرطوبة والمواد الكيميائية للتحنيط، في تعقيد المهمة.
استُخرج الحمض النووي من سن فرد دُفن في قرية نويرات، جنوب القاهرة، حيث وُجدت رفاته داخل وعاء خزفي مختوم في مقبرة منحوتة بسفح تل. ولم يكن التحنيط الاصطناعي قد أصبح ممارسة شائعة حينها، مما ساعد في الحفاظ على الحمض النووي.
الروابط الجينية بين الحضارات تظهر في التحليل
أظهرت نتائج التحليل أن نحو 80% من التركيبة الوراثية تعود لأفراد شمال إفريقيا، بينما 20% ترجع لأفراد من الهلال الخصيب، وتحديداً بلاد ما بين النهرين.
تشير هذه النتائج إلى وجود اختلاط بين سكان مصر القدامى وشعوب غرب آسيا. واعتبر دانيال أنطوان، أمين متحف مصر والسودان بالمتحف البريطاني، أن هذا يعد أول دليل جيني مباشر يدعم ما ورد في دراسات سابقة.
نهر النيل كطريق سريع للحضارات القديمة
أشارت الدراسة إلى أن نهر النيل كان شرياناً حيوياً لحركة الناس والأفكار بين المراكز الثقافية القديمة. وصرّح أنطوان أن النيل “عمل كطريق سريع قديم لنقل الثقافات والبشر على حد سواء”.
التحليل الأثري والاجتماعي للفرد
أظهرت دراسة الهيكل العظمي علامات تدل على حياة عملية مرهقة، شملت التهابات في المفاصل، وتوسعاً في عظام الحوض، وإجهاداً في الذراعين، ما يشير إلى أن الفرد ربما عمل خزافاً أو في مهنة مشابهة.
ورجّح البروفيسور جويل أيريش أن الدفن الفخم للفرد قد يكون دليلاً على مكانة اجتماعية مرموقة اكتسبها نتيجة مهارته أو نجاحه الاستثنائي.
أدلة أثرية تؤكد التبادل الثقافي والتجاري
عززت الدراسة الجديدة ما أظهرته الأدلة الأثرية من علاقات تجارية وثقافية بين مصر وبلاد ما بين النهرين، ومنها تشابه في تقنيات الفخار وأنظمة الكتابة.
لكنها المرة الأولى التي تُثبت فيها هذه العلاقات جينياً، ما يُضفي طابعاً علمياً جديداً على التفاعل بين الحضارات القديمة.
السياق التاريخي للاكتشاف الجيني
عاش الفرد محل الدراسة خلال فترة انتقالية من التاريخ المصري، بين العصر المبكر والمملكة القديمة، وهي مرحلة شهدت توحيد مصر العليا والسفلى واستقراراً سياسياً ساهم في بناء الأهرامات.
بالتزامن، كانت دول المدن السومرية تتشكل، وبدأ استخدام الكتابة المسمارية كنظام تواصل موثق.
دراسات سابقة تدعم النتائج الحديثة
تُكمل هذه الدراسة أبحاثاً سابقة، منها دراسة عام 2017 أجراها فريق من جامعة توبنغن ومعهد ماكس بلانك، حللت حمضاً نووياً لـ151 مومياء من موقع أبوصير الملق.
أظهرت النتائج حينها أن المصريين القدماء كانوا أقرب وراثياً لشعوب الشرق الأدنى مقارنة بالمصريين المعاصرين، الذين يحملون حوالي 8% من جيناتهم من أصول جنوب الصحراء الإفريقية، نتيجة تدفقات جينية لاحقة.
التحديات التقنية في حفظ الحمض النووي
أكد البروفيسور يوهانيس كراوز أن الحفاظ على الحمض النووي في مناخ مصر يشكل تحدياً كبيراً بسبب الحرارة والرطوبة وعمليات التحنيط.
الآثار العلمية والثقافية للاكتشاف
أوضحت الدكتورة أدلين موريز جاكوبز، الباحثة الرئيسية، أن جمع الأدلة من الحمض النووي والعظام والأسنان ساعد في بناء صورة متكاملة عن الفرد.
وتأمل أن تساعد العينات المستقبلية في تحديد التوقيت الدقيق لبداية الحركة السكانية من غرب آسيا إلى مصر.
مشاريع مستقبلية وتعاون دولي
يعمل الفريق البحثي على توسعة نطاق الدراسة، بالتعاون مع باحثين مصريين، لبناء فهم أعمق للهجرات القديمة.
كما تواصل أكاديمية البحث العلمي تنفيذ مشروع كبير لبناء جينوم مرجعي للمصريين المعاصرين، بهدف استكشاف الروابط الجينية بين الحضارات بشكل أدق.