يواصل الفيلم السعودي “هجرة” للمخرجة شهد أمين مسيرة نجاحاته السينمائية العالمية، بترشيحه ضمن فئة “Venice Spotlight Competition” في مهرجان البندقية السينمائي الدولي في دورته الثانية والثمانين. هذا الإنجاز يُعد محطة مهمة في مسيرة السينما السعودية، خاصة وأن الفيلم يحظى بدعم برنامج “ضوء” التابع لهيئة الأفلام السعودية.
المخرجة شهد أمين: رحلة إبداعية متميزة
تُعتبر المخرجة شهد أمين من أبرز أصوات السينما السعودية المعاصرة، حيث نشأت في مدينة جدة وحصلت على درجة البكالوريوس في إنتاج الفيديو والدراسات السينمائية من جامعة غرب لندن. بدأت مسيرتها المهنية بأفلام قصيرة مميزة مثل “موسيقانا” و”نافذة ليلى” قبل أن تحقق انتشاراً واسعاً بفيلمها “حورية وعين” عام 2013، الذي حاز على جائزة أفضل فيلم روائي قصير من مهرجان أبوظبي السينمائي.
كان فيلمها الروائي الطويل الأول “سيدة البحر” عام 2019 بمثابة نقطة تحول في مسيرتها، حيث عُرض لأول مرة في مهرجان البندقية السينمائي وفاز بجائزة نادي فيرونا السينمائي للفيلم الأكثر إبداعاً في أسبوع النقاد. لاحقاً، رشحت المملكة العربية السعودية هذا الفيلم للمنافسة على جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي.
فيلم “هجرة”: قصة من صميم الهوية السعودية
يُعرض فيلم “هجرة” قصة إنسانية عميقة تسلط الضوء على حكايات المهاجرين الذين استقروا في المملكة بعد أداء فريضة الحج، مع التركيز بشكل خاص على دور المرأة في هذا السياق. تم تصوير الفيلم على مدى 55 يوماً في ثماني مدن سعودية مختلفة، بدءاً من بني مالك والطائف، مروراً بمكة المكرمة وجدة والمدينة المنورة، ووصولاً إلى العلا وتبوك ونيوم وضبا.
تدور أحداث الفيلم حول ثلاث نساء من أجيال مختلفة: الجدة والأم والابنة “جنى”، اللواتي يبحثن عن فتاة مفقودة تدعى “سارة” في رحلة تكشف جمال الجغرافيا السعودية وتنوع ثقافاتها. وفقاً للمخرجة شهد أمين، يركز الفيلم على “المرأة وحضورها القوي في تاريخ المملكة العربية السعودية”، مقدماً شخصيات نسائية تبحث كل منها عن حرية وصوت يخصها.

Venice Spotlight Competition: منصة عالمية جديدة
يُعتبر قسم “Venice Spotlight Competition” أحد الأقسام المهمة في مهرجان البندقية السينمائي، والذي يحل محل قسم “Horizons Extra” في الدورة الحالية. هذا القسم يضم ثمانية أفلام هذا العام، بما في ذلك فيلم “Motor City” بطولة شايلين وودلي، وفيلم “هجرة” للمخرجة السعودية شهد أمين.
يقام مهرجان البندقية السينمائي الدولي في دورته الثانية والثمانين من 27 أغسطس إلى 6 سبتمبر 2025، تحت رئاسة المخرج الأمريكي ألكسندر باين. المهرجان يُعتبر أقدم مهرجان سينمائي في العالم، ويُنظم من قبل بينالي فينيسيا ويديره ألبرتو باربيرا.
برنامج “ضوء”: دعم حكومي للسينما المحلية
يُعد برنامج “ضوء” لدعم الأفلام أحد أبرز المبادرات التي أطلقتها هيئة الأفلام السعودية، حيث يقدم الدعم النقدي غير المسترد لشركات ومؤسسات الإنتاج السينمائي لصناعة محتوى محلي إبداعي. البرنامج يستهدف الأفلام الطويلة والقصيرة، الروائية والوثائقية وأفلام الرسوم المتحركة، ويتطلب أن تكون الشركات المتقدمة تملك كياناً قانونياً في المملكة العربية السعودية.
نجح برنامج “ضوء” في دعم إنتاج أعمال سينمائية سعودية نوعية، ومكّن العديد من المواهب من الوصول إلى منصات دولية مرموقة. هذا البرنامج يُعتبر مظلة إنتاجية رئيسية للسينما السعودية، ويسعى إلى بناء حضور دائم للمملكة على خريطة الإنتاج السينمائي العالمي.
موقف هيئة الأفلام السعودية
أكد الرئيس التنفيذي لهيئة الأفلام عبدالله بن ناصر القحطاني أن مهرجان البندقية يُعتبر إحدى المحطات العالمية التي تكشف للعالم جودة الإبداع السعودي وشغف صنّاعه. وأضاف أن برامج مثل “ضوء” لدعم الأفلام تسعى لإيجاد الفرص للإنتاجات السعودية للظهور على الساحة الدولية، وتعمل على بناء حضور دائم يعكس هوية المملكة وطموحاتها في صناعة الأفلام.
وفي إطار مشاركة الهيئة في المهرجان، تقيم هيئة الأفلام جلسة طاولة مستديرة بعنوان “الجمهور الشاب ودور السينما”، لمناقشة سبل جذب الأجيال الجديدة نحو دور العرض واستعراض تجارب محلية ودولية حول العلاقة المتغيرة بين الشباب والفن السابع.

السينما السعودية في المحافل الدولية: تاريخ من النجاحات
لم تكن مشاركة فيلم “هجرة” في مهرجان البندقية هي الأولى للسينما السعودية في هذا المحفل المرموق. فقد سبق أن شاركت المخرجة هيفاء المنصور بفيلمها “المرشحة المثالية” في المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية عام 2019، ليصبح أول فيلم سعودي يُعرض في المسابقة الرسمية للمهرجان.
كما شارك فيلم “سيدة البحر” لشهد أمين في الدورة السادسة والسبعين من مهرجان البندقية عام 2019، حيث فاز بجائزة نادي فيرونا السينمائي للفيلم الأكثر إبداعاً في أسبوع النقاد. هذه المشاركات تؤكد على النمو المستمر والحضور المتزايد للسينما السعودية في أبرز المهرجانات السينمائية الدولية.
رؤية المملكة 2030 والتطوير السينمائي
تأتي نجاحات السينما السعودية في إطار رؤية المملكة 2030، التي تهدف إلى تنويع مصادر الدخل وبناء مجتمع حيوي. شهد قطاع الثقافة والترفيه، وعلى رأسه السينما، نمواً متسارعاً منذ إطلاق الرؤية، حيث تهدف إلى أن يساهم قطاع الترفيه بنسبة 3% من الناتج المحلي الإجمالي، إضافة إلى خلق أكثر من 100 ألف وظيفة بحلول عام 2030.
تحولت المملكة من دار عرض واحدة إلى أكثر من 640 دار عرض، ومن انتاجات محلية محدودة إلى انتاجات مشتركة مع أكبر 20 عاصمة لصناعة السينما العالمية. كما شهدت حضوراً بارزاً للأفلام السعودية في المحافل الدولية، توّج بمشاركة فيلم “نورة” في المسابقات الرسمية لمهرجان كان السينمائي 2024.
فيلم هجرة السعودي ومهرجان البحر الأحمر السينمائي
يلعب مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي دوراً محورياً في دعم الإنتاج السينمائي العربي والأفريقي من خلال صندوق البحر الأحمر، الذي وصلت قيمته إلى 15 مليون دولار لدعم أكثر من 280 مشروعاً. كما تلقى المهرجان مساهمة جديدة بقيمة 4 ملايين دولار من هيئة الأفلام السعودية لدعم وتطوير 40 مشروعاً جديداً للسينمائيين في السعودية والعالم العربي.
احتفل مهرجان البحر الأحمر السينمائي باختيار فيلم “هجرة” ضمن مهرجان فينيسيا 2025، مؤكداً على أهمية هذا الإنجاز للسينما السعودية. المهرجان يُعتبر منصة عالمية لعرض وتكريم الأعمال السينمائية المتنوعة من مختلف أنحاء العالم، ويساهم في تعزيز الحضور السينمائي العربي على الساحة الدولية.
التحديات والفرص في صناعة السينما السعودية
رغم النجاحات المحققة، تواجه صناعة السينما السعودية تحديات هيكلية في مسيرتها نحو الاستدامة، أبرزها غياب نموذج إنتاجي متكامل يضمن الربحية والتنافسية. إلا أن الاستثمارات الضخمة والمبادرات الحكومية النوعية تُساهم في تعزيز هذا القطاع الواعد.
تسعى المملكة إلى ترسيخ موقعها كمحور إقليمي ودولي للإنتاج السينمائي، من خلال إطلاق صندوق الأفلام السعودية برأسمال قدره 375 مليون ريال. كما تشمل المبادرات إنشاء مدينة نيوم للإنتاج الإعلامي وإدارة فيلم العلا واستوديوهات MBC.
الأثر الثقافي والاقتصادي
تُساهم نجاحات الأفلام السعودية في المهرجانات الدولية في تعزيز الصورة الثقافية للمملكة وتعريف العالم بالهوية السعودية الأصيلة. كما تُسهم في جذب الاستثمارات الأجنبية وتطوير السياحة الثقافية، خاصة مع تصوير الأفلام في مواقع طبيعية وتاريخية مختلفة داخل المملكة.
يُعتبر قطاع صناعة الأفلام في المملكة “فرصة بمليار دولار” وفقاً لشبكة “برايس ووتر هاوس كوبرز”، بميزانية استثمارية لا تقل عن 10 مليارات ريال سعودي، ومن المتوقع أن يُساهم بما لا يقل عن مليار ريال سعودي من إجمالي الناتج المحلي السعودي وخلق الآلاف من فرص العمل.
الآفاق المستقبلية
تتطلع الأوساط السينمائية السعودية إلى المزيد من النجاحات في المحافل الدولية، خاصة مع تزايد عدد الإنتاجات المحلية والمشتركة. كما يُتوقع أن تُساهم الأجيال الجديدة من صناع الأفلام السعوديين في إثراء المشهد السينمائي المحلي والعربي.
تُواصل هيئة الأفلام السعودية جهودها في ترسيخ حضور سعودي فاعل على خريطة الإنتاج السينمائي العالمي، ضمن توجه استراتيجي يتماشى مع مستهدفات رؤية المملكة 2030 في بناء قطاع ثقافي إبداعي وتنافسي يعكس الهوية السعودية ويعزز التبادل الثقافي على المستوى الدولي.
يُمثل ترشيح فيلم “هجرة” للمشاركة في مهرجان البندقية السينمائي إنجازاً جديداً يُضاف إلى سجل نجاحات السينما السعودية، ويؤكد على قدرة المواهب المحلية على المنافسة في أرقى المحافل الدولية وتقديم قصص أصيلة تعكس الثقافة والهوية السعودية للعالم.