كان جورج خبّاز يتحدث عن “يونان” الذي حصد عنه جائزة أفضل ممثل بمهرجان “البحر الأحمر السينمائي” كما لو أنه يعيد ترتيب ذاكرته من جديد، لا كفنان يراجع دوراً أدّاه، بل كإنسان وجد نفسه في قلب حكاية هزّت شيئاً عميقاً بداخله. من اللحظة الأولى، كان واضحاً أن الفيلم لم يكن تجربة عابرة بالنسبة له، بل محطة شخصية حملت الكثير من الأسئلة التي ظلّ يتفاداها لسنوات.
يعترف الممثل اللبناني المخضرم في حوار خاص بأن انجذابه إلى المشروع بدأ قبل أن يلتقي بالشخصية نفسها، حين تعرّف إلى عالم أمير فخر الدين من خلال أفلامه السابقة، تلك التي شدّته بلغتها التأملية وبحثها الدائم عن الإنسان خلف الحدث. لذلك لم يكن مستغرباً أن يشعر، فور قراءته للسيناريو، بأن “يونان” مختلف عن كل ما قدّمه من قبل، وأنه أقرب إلى نص يُقرأ بحواس كاملة لا بعين واحدة.
يستعيد خبّاز اللحظة التي اكتشف فيها أن شخصية “منير” تكاد تكون جزءاً منه، لا مجرد دور يؤديه. كان رجلاً يقف على حافة العمر، محمّلاً بأسئلة تتعلّق بالذاكرة والانتماء وفكرة المكان الذي لم يعد يشبه ساكنيه. يروي أن السؤال الذي يطارد الشخصية ـ “ماذا لو أن الأم التي أنجبتك لم تعد تعرفك؟” ـ هزّه هو أيضاً، لأنه يعكس، برمزية دقيقة، شعور الإنسان حين يفقد جذوره أو حين يتيه بين وطنين لا يمنحانه ما يحتاجه ليشعر بأنه مُقيم في ذاته. ولأن السيناريو متخم بظلال الوحدة والضياع، وجد أنه أمام انعكاس مباشر لقلق جيل كامل يبحث عن معنى وسط عالم يتغيّر بسرعة لا تُحتمل.
وإذا كان كثيرون يرونه ممثلاً يميل إلى التعبير عبر الكلمات والإيقاع المسرحي، فإن ما شدّ فخر الدين إليه كان عكس ذلك تماماً. فقد رآه في “أصحاب ولا أعز” ممثلاً يملك قدرة فريدة على قول كل شيء بالصمت. تلك النظرات التي التقطتها الكاميرا يومها، كما يقول خبّاز، تحوّلت في “يونان” إلى لغة كاملة يتحدث بها منير. بالنسبة له، كان الصمت امتحاناً، لكنّه الامتحان الذي يهوى خوضه: كيف يعبّر الممثل عن الحيرة والإنهاك والرغبة والانكسار من دون كلمة واحدة؟ يصف التجربة بأنها أقرب إلى الوقوف أمام مرآة لا تعكس وجهه، بل ما يخفيه هذا الوجه.
ويبدو أن البيئة التي صُوّر فيها الفيلم كانت جزءاً أساسياً من تكوين الحالة. يقول خبّاز إن الجزيرة التي احتضنت التصوير ساعدته على الدخول في عزلة تشبه عزلة شخصيته: مكان متقلب، قاسٍ، لا يتيح لك أن تندمج معه إلا إذا تركت وراءك صخب العالم. كانت الطبيعة هناك تحاصره ببطء، ومع ذلك تمنحه فسحة ليتأمل فكرة البعد، كما لو أن المناظر الواسعة كانت تذكّره دائماً بأن الإنسان كائن صغير حين يقف أمام المجهول.

ويضيف أن انتقاله لاحقاً إلى هامبورغ للتصوير شكّل مفارقة، إذ شعر بأن المدينة تمنحه ما يشبه “العودة إلى الهواء”، بعد أسابيع طويلة عاش خلالها داخل عالم منير المغلق.
ويتوقف خبّاز عند التجربة الإنسانية الغنية التي منحها له الفريق الدولي، مؤكداً أن العمل ضمن مجموعة تنتمي إلى ثقافات متعددة خلق مزيجاً فريداً داخل الكواليس. كان يرى أن كل شخص في الفريق ـ من المخرج السوري إلى زملائه الأوروبيين والعرب والتقنيين من جنسيات مختلفة ـ يحمل إضافة صغيرة تندمج في المشهد الكبير.
ورغم أن اختلاف اللغة شكّل تحدياً في البداية، فإن ما يصفه بـ”اللغة المشتركة للفن” كان كفيلاً بتذويب المسافات. ولا يخفي أن تجربته مع اللغة الألمانية كانت الأصعب؛ فقد تعلّمها من الصفر خلال فترة قصيرة استعداداً للدور، مستفيداً من مدربين مرافقين ومن دعم كبير من هانا شيغولا التي لم تبخل عليه بالملاحظات والتشجيع.
ويستعيد الممثل اللبناني مشوار الفيلم في المهرجانات بنبرة امتنان واضحة، مشيراً إلى أن انطلاقته من برلين كانت أشبه بتأكيد على أن العمل يمضي في الطريق الصحيح. ثم بدأت الرحلة تتسع، جوائز متعددة في محطات عالمية، وحضور نقدي لافت في مهرجانات أوروبية وآسيوية.
ومع أن هذه المحطات كانت مهمة، فإن خبّاز يرى أن عرض الفيلم في مهرجان البحر الأحمر، الذي كان من أبرز الداعمين له منذ لحظة ولادته، له وقع خاص. يقول إنه شعر هناك بأن المشروع اكتمل، ليس فقط بسبب مكانة المهرجان، بل لأن الفيلم يعود ليخاطب جمهوراً عربياً يرى نفسه في هذه الحكاية.
وفي جزء آخر من حديثه، يعرّج خبّاز على المسرح الذي ظلّ، كما يردد دائماً، بيته الأول. يخبرنا أن تجربته مع “خيال صحراء” كانت واحدة من المحطات القريبة إلى قلبه، لأنها أعادت تثبيت فكرة أن الجمهور يبحث دائماً عن المسرح الذي يمنحه أسئلة لا خطباً. ومع أن الظروف العامة في لبنان صعبة، فإنه يرى أن المساحة المتاحة للفنانين لا تزال كافية لأن يقولوا ما يريدون، إذا عرفوا كيف يستخدمونها.
قبل أن ينهي حديثه، يشير باقتضاب إلى مشاريعه المقبلة، في تركيز المعتاد على العمل أكثر من الكلام عنه، يقول إنه داخل مرحلة تحضير لفيلم جديد سيبدأ تصويره قريباً، إضافة إلى استمرار عروض مسرحيته ونية العمل على مشروع تلفزيوني قصير. لكنه يترك جملة تعكس حقيقة علاقته بـ”يونان”: يؤكد أنه لن ينسى هذه التجربة، لأنها كانت مساحة مواجهة مع النفس أكثر منها مجرّد دور، ولأن الصمت الذي تحدّث به “منير” كان في الحقيقة صوتاً داخلياً كان ينتظر وقتاً طويلاً ليُسمع.




