أعلنت دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي اكتشاف صليب جصي كامل في فناء منزل تابع لكنيسة ودير جزيرة صير بني ياس، خلال أولى حملات التنقيب الكبرى في الجزيرة منذ أكثر من 30 عاماً. يمثل هذا الاكتشاف دليلاً جديداً على تجذر قيم التسامح والتعايش في تاريخ دولة الإمارات العربية المتحدة.
تفاصيل الاكتشاف ومنهجية التنقيب
انطلقت حملة التنقيب الميدانية في مطلع يناير 2025، حيث عثر فريق البحث الأثري على الصليب المصنوع من الجص والذي كان يُستخدمه الرهبان في صلواتهم الروحية. اكتشفت عالمة الآثار الإماراتية هاجر المنهالي من دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي القطعة الأثرية، حيث لفت انتباهها بصمة إصبع واضحة على الجهة الخلفية من الجص، مما يشير إلى لمسة الحرفي الذي عمل على صنع هذا الصليب قبل قرون.
يبلغ طول الصليب الجصي 27 سنتيمتراً وعرضه 17 سنتيمتراً وسماكته حوالي 2 سنتيمتر. يتضمن تصميم الصليب عناصر إقليمية مميزة كانت شائعة في القطع الأثرية في منطقة الشرق الأوسط، مثل تمثيل الجلجثة وهو التل الذي يؤمن المسيحيون أن المسيح صُلب عليه.
أوضحت ماريا جايوسكا، عالمة الآثار التي تقود الفريق في الجزيرة، أن “كل عنصر بصري في الصليب الجصي يتضمن رموزاً إقليمية”. وأضافت أن الهرم المتدرج في الأسفل والذي يمثل الجلجثة، والأوراق النابتة من القاعدة، وشكل أذرع الصليب، والنقاط في النهايات، والإطار المتخصص، جميعها تجد أوجه شبه إقليمية في الخليج العربي وبلاد الرافدين.
الأهمية التاريخية والثقافية للاكتشاف
يشبه تصميم الصليب أنماط الصلبان الموجودة في العراق والكويت، ويرتبط بالكنيسة الشرقية التي تعود أصولها إلى العراق القديم. تشير هذه الأوجه المتشابهة إلى الروابط التجارية والثقافية الوثيقة التي كانت تربط بين هذه المناطق خلال القرنين السابع والثامن الميلاديين.
يُعتقد أن هذا الصليب كان قطعة للعبادة والتأمل، ومن المحتمل أنه كان مُعلقاً على جدار حيث يركع المصلون أمامه في تأمل روحي. يُوفر الاكتشاف دليلاً على وجود المسيحية في المجتمع الأوسع في جزيرة صير بني ياس، وليس فقط في الكنيسة والدير، مما يكشف النقاب عن ماضي الجزيرة الثري.
تصريحات المسؤولين والخبراء
قال معالي محمد خليفة المبارك، رئيس دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي، إن “اكتشاف الصليب الجصي القديم في جزيرة صير بني ياس يُجسد دليلاً جديداً قوياً على تجذر قيم التعايش السلمي والانفتاح الثقافي في تاريخ دولة الإمارات العربية المتحدة منذ قرون”. وأضاف أن هذا الاكتشاف “يعزز شعورنا بالفخر للانتماء لدولتنا، ويُذكرنا بأن التسامح ليس مفهوماً حديثاً، بل مبدأً متأصلاً في تاريخ منطقتنا”.
أكد المبارك أن “الاكتشافات المستمرة في جزيرة صير بني ياس، حتى بعد 30 عاماً من عمليات البحث والتنقيب، تؤكد على غنى تراثنا الثقافي”. وأشار إلى أن الدائرة تواصل جهودها للكشف عن هذه القصص التاريخية القيمة، مؤكداً التزام الدائرة بالحفاظ على تراث أبوظبي المتنوع وتعزيزه وحمايته.
السياق التاريخي لجزيرة صير بني ياس
شهدت جزيرة صير بني ياس في القرنين السابع والثامن الميلاديين استقرار مجتمع مسيحي، حيث اكتشف علماء الآثار كنيسة وديراً وعدداً من المنازل. اُكتشفت هذه المواقع الأثرية لأول مرة في عام 1992، خلال برنامج المسح الأثري لجزر أبوظبي الذي تم بتوجيهات القيادة الرشيدة لدولة الإمارات العربية المتحدة.
كشفت أعمال التنقيب السابقة عن سلسلة من المنازل الصغيرة ذات فناء قرب الدير، وتم العثور على مئات من البقايا الأثرية في الكنيسة والدير والمنازل القريبة. تشير هذه المكتشفات إلى اعتماد السكان على البحر للحصول على الغذاء، إضافة إلى رعي الماشية والأغنام والماعز.
يُشير الزجاج والسيراميك المُكتشف في الموقع إلى تجارة السكان الواسعة في هذه الفترة عبر الخليج العربي. استمرت الكنيسة في الازدهار حتى بعد انتشار الإسلام في المنطقة، مما يُظهر التعايش السلمي بين المجتمعات المسيحية والإسلامية خلال تلك الحقبة التاريخية.