ينسكب ضوء المساء الذهبي على الواجهة المتعددة الأوجه لبرج خليفة، حيث تلتقط ألواحه الزجاجية الستة والعشرون ألفاً أشعة الغروب، كل لوحة بدرجة لونية مختلفة. يتحول أطول برج في العالم إلى منارة مضيئة تجذب الأنظار صعوداً نحو زرقة السماء العميقة.
مع حلول الظلام على المدينة، تبدأ آلاف أضواء LED عرضها المنسق عبر سطح البرج، في مشهد تقني بديع يُرى من مسافات بعيدة. إنها كوكبة عمودية متألقة، وُلدت من الطموح البشري وليس من الغبار الكوني.
في الأسفل، تتحرك مياه نافورة دبي بإيقاع متناغم مع الموسيقى الأوركسترالية، بينما تمتد نفثاتها المتزامنة نحو الأعلى، كأنها تحيي هذا العملاق المعماري الذي أعاد تعريف حدود الإمكان.
من الصعب تصوّر أن هذا المشهد الاستثنائي، هذا التزاوج المثالي بين الجرأة المعمارية والبراعة الهندسية، كان مجرد فكرة في عقل رجل واحد قبل أقل من ثلاثة عقود.
في عام 1997، أسس محمد العبار شركة إعمار العقارية في دبي التي كانت حينها تسعى لترسيخ مكانتها على الخريطة العالمية. كان المشهد أمامه يحمل وعوداً أكثر من الإنجازات، وإمكانيات أكبر من الحقائق الملموسة. كانت الإمارة في ذلك الوقت عبارة عن مجموعة من المباني المنخفضة المطلة على الخور، بأفق متواضع وسمعة دولية ما زالت في مراحلها الأولى.
لكن العبار، مثل عمالقة التخطيط الحضري عبر التاريخ، أدرك حقيقة جوهرية: أن المدن لا تُشيّد بالطوب والأسمنت فقط، بل تُولد من رحم الأحلام والرؤى.
قصة إعمار تتداخل بشكل كبير مع قصة دبي الحديثة، إنها حكاية تحوّل سريع وجذري يكسر كل القواعد التقليدية لنمو المدن. بينما تحتاج المدن الأوروبية إلى قرون لتحقيق نموها، والمدن الأمريكية إلى عقود، نجحت دبي في ضغط هذا التطور في سنوات قليلة. نهضت من قلب الصحراء بسرعة مذهلة تأسر الزائرين وتدهش المراقبين. في مركز هذا التحول الاستثنائي تقف إعمار، ليس كمطوّر عقاري عادي، بل كمهندس للأحلام الكبيرة، وفنان يرسم معالم الأفق، ومصمم لمجتمعات متكاملة تضم عوالم متنوعة.
تأمّل برج خليفة، ذلك البرج الشاهق الذي يصل إلى السحاب بارتفاع 828 متراً. صممه المهندس أدريان سميث في شركة سكيدمور، أوينغز وميريل، مستلهماً شكله من زهرة الصحراء المعروفة باسم “هيمينوكاليس” أو زنابق العنكبوت. جاء التصميم الثلاثي للبرج ليعكس الهندسة المتناغمة لبتلات هذه الزهرة. لكن برج خليفة أكبر من مجرد تحفة معمارية، إنه رسالة واضحة وتجسيد حقيقي لطموح دبي في أن تكون ليس مجرد مركز إقليمي، بل نقطة التقاء عالمية للتجارة والسياحة والثقافات. عندما افتتح البرج في عام 2010، لم يكتف بكسر الأرقام القياسية السابقة، بل تجاوز أقرب منافسيه بأكثر من 300 متر، ووضع معايير جديدة تماماً لما يمكن تحقيقه في عالم العمارة.
ما وراء الارتفاع والبهرجة
لكن فهم رؤية إعمار الحقيقية يتطلب النظر إلى ما هو أبعد من الارتفاعات الشاهقة والمناظر المبهرة. تكمن عبقرية الشركة في إنشاء مجتمعات حيوية متكاملة، مساحات تنمو وتزدهر، تشجع على التفاعل
الإنساني وتقوي روابط الانتماء. وسط مدينة دبي، هذا المشروع الضخم الممتد على 500 فدان حول برج خليفة، ليس مجرد مجموعة من المباني المذهلة، بل مدينة متكاملة حيث تتواجد الأبراج السكنية والمكاتب والفنادق ومراكز الترفيه في تناغم مثالي. أما دبي مول، بمتاجره التي يفوق عددها 1200 وحوض الأسماك وحلبة التزلج والشلال الداخلي، فهو أكثر من مجرد مركز تسوق. إنه ساحة عصرية للتجمع، مكان يلتقي فيه الناس للتسوق والتفاعل والمشاركة في نبضات الحياة الحضرية.
عند التجول في هذه المساحات مساءً، نشهد لوحة رائعة من التنوع البشري. هنا تتجول العائلات السعودية بجانب السياح الصينيين والوافدين من الفلبين. تمتزج رائحة القهوة العربية الأصيلة مع عبق التوابل الهندية وأنواع العطور الإيطالية الفاخرة. تتداخل لغات ولهجات من جميع أنحاء العالم لتصنع سيمفونية صوتية تعكس مكانة دبي الحقيقية كملتقى للثقافات. إنها بمثابة طريق الحرير العصري، حيث يلتقي الشرق مع الغرب والشمال مع الجنوب في مشهد عالمي يجمع بين التجارة والثقافة.
إلى أبعد من حدود الإمارات
ومع ذلك، تمتد رؤية إعمار إلى ما وراء حدود الإمارات. ففي مصر، شيدت الشركة مشروع أب تاون كايرو على هضبة تطل على إحدى أعرق مدن العالم. هنا، بين الفيلات والمنازل المتصلة ذات الطابع الإسباني، يستطيع السكان النظر إلى مدينة شهدت عظمة الفراعنة وانتشار الإسلام وأحداث التاريخ الحديث. المشهد مذهل حقاً، أهرامات عمرها آلاف السنين تظهر من شرفات منازل عصرية فاخرة، حيث تتداخل العصور لتمنح السكان فرصة العيش وسط حضارات مختلفة في آن واحد.
على الساحل المصري للبحر الأبيض المتوسط، يقدم مشروع مراسي تجربة ثقافية فريدة. ابتكرت إعمار هنا مجتمعاً منتجعياً يمزج بين ست ثقافات متوسطية متنوعة، مصر والمغرب وتونس واليونان وإسبانيا وإيطاليا. أصبح المكان حواراً معمارياً حقيقياً يتجاوز الحدود والقرون، يجسد البحر الأبيض المتوسط كجسر ثقافي وليس حاجزاً فاصلاً. التنقل بين أحياء مراسي المختلفة يشبه رحلة عبر الزمان والمكان، حيث تنتقل من بساطة البيوت اليونانية البيضاء إلى روعة الزخارف المغربية في دقائق معدودة.
في تركيا، رسخت إعمار مكانتها كرائدة في إنشاء المجتمعات المتكاملة من خلال مشاريع مثل توسكان فالي وإعمار سكوير، حيث تجتمع أرقى العلامات التجارية العالمية في مجالي الضيافة والتجارة. كما امتد نشاطها إلى باكستان والهند والمملكة العربية السعودية، مما يعكس طموحها في نشر فلسفة عمرانية تركز على الجودة والتميز والطابع العالمي الذي يتخطى الحدود الجغرافية.
حكاية خور دبي.. العودة إلى الجذور واستشراف الغد
ومع كل هذا الانتشار العالمي، ربما تجد رؤية إعمار تعبيرها الأصفى في دبي نفسها. يُعد خور دبي، أحد أضخم مشاريع الشركة الحالية، مزيجاً مثالياً بين العودة إلى جذور المدينة، حيث كان الخور قلب تجارتها النابض، وبين رؤية جريئة لمستقبلها المشرق. يمتد هذا المشروع الضخم على ستة ملايين متر مربع، وسيضم عند اكتماله أكثر من 8.9 ملايين متر مربع من المساحات السكنية، و540 ألف متر مربع للتجارة والتسوق، وأكثر من 60 ألف متر مربع للمرافق الثقافية.
السؤال المهم: هل تستطيع المدن التي تنمو بهذه السرعة المذهلة أن تكتسب العمق الثقافي والروح الإنسانية التي تميز مدناً عريقة مثل روما أو كيوتو، التي تطورت عبر قرون طويلة؟ وهل يمكن أن تصبح العمارة المبهرة غاية في حد ذاتها، بعيداً عن المقياس الإنساني الذي يجعل المدن صالحة للعيش وليس فقط للإعجاب؟
تبدو إعمار اليوم أكثر استعداداً لمناقشة التحديات مع استعدادها لدخول العقد الرابع من عمرها. شراكتها مع شركة شاومي لإطلاق “إعمار سمارت هوم” في عام 2020 تعكس فهماً عميقاً بأن مستقبل التطوير العمراني يتجاوز المباني والهياكل التقليدية إلى عالم التقنيات الذكية التي تعيد تشكيل تجربتنا اليومية في المدن.
هذه المنازل المتصلة رقمياً، المجهزة بأنظمة ذكية مدعومة بالذكاء الاصطناعي، تمثل حدوداً جديدة في عالم التطوير العقاري. حيث تتحول الجدران والنوافذ إلى أكثر من مجرد عناصر بناء، لتصبح أجزاء من نظام ذكي يتفاعل مع احتياجات السكان ويتكيف مع تفضيلاتهم.
كذلك يُظهر إطلاق منصة “فيوم” الرقمية لإعادة بيع الوحدات العقارية تركيزاً متزايداً على البنية التحتية الرقمية كمكمل أساسي للعمارة التقليدية.
هذا التوجه الرقمي يكشف عن شركة تدرك تماماً كيف تغيّر مفهوم “المكان” في القرن الحادي والعشرين، وتفهم أن تجربتنا للبيئة المحيطة بنا أصبحت مرتبطة بشكل وثيق بالتكنولوجيا، وأن المطورين الأكثر نجاحاً هم من يستطيعون التفوق في العالمين معاً، المادي والرقمي، بنفس المستوى من المهارة والإبداع.
مع غروب الشمس على خور دبي، وامتداد الظلال الطويلة فوق مواقع البناء التي ستشهد قريباً ولادة أبراج وساحات وإمكانيات جديدة، يصبح من الضروري التأمل في الرحلة الاستثنائية التي قادت إعمار، ودبي معها، إلى هذه اللحظة التاريخية.
من بداية متواضعة في عام 1997 إلى قوة عالمية في التطوير العقاري، تعكس مسيرة الشركة تحول المدينة نفسها من بلدة صغيرة على الخليج إلى مدينة عالمية مؤثرة. كلتاهما نمتا بفضل نوع خاص من التفاؤل، الإيمان بأن المستقبل ليس مجرد شيء يحدث بالصدفة، بل رؤية يمكن تصميمها وهندستها وبناؤها بالعزيمة والإرادة.
اليوم، ونحن نقف على أعتاب عصر جديد تشكله التحديات المناخية والثورة التكنولوجية والقيم الاجتماعية المتغيرة، يجب أن تتطور طبيعة هذه الرؤية بالضرورة. لا يمكن لأحلام الغد المعمارية أن تكون مجرد نسخ مكبرة من إنجازات الأمس. يجب أن تواجه تحديات الاستدامة والعدالة الاجتماعية، وأن تحقق التوازن الدقيق بين الإبهار والطابع الإنساني الذي يجعل المدن مكاناً محبوباً للعيش وليس فقط للإعجاب.
الأهم من ذلك، يجب أن ندرك أن القيمة الحقيقية لأي مبنى، أو شركة تطوير، لا تُقاس فقط بقدرتها على تغيير معالم الأفق، بل بمدى إثرائها لحياة الناس الذين يعيشون ويعملون في ظلالها.
ربما يكون هذا هو الإرث الأعمق لقصة إعمار: ليس فقط الأبراج التي تلامس السحاب أو المجتمعات التي تمتد على الشواطئ، بل البرهان الحي على أن الأحلام، عندما تدعمها الإرادة الصادقة والموارد المناسبة، يمكن أن تتحول إلى حقائق ملموسة.
في عالم غالباً ما يهيمن عليه التشاؤم والقيود، هناك قوة حقيقية في هذا الدليل على الإمكان، في هذه الشهادة على قدرة الإنسان على التخيل والإبداع والبناء. وبينما نواجه تعقيدات وتحديات القرن الحادي والعشرين، قد تكون هذه الروح من الحلم الطموح، المقترنة بوعي متزايد بمسؤولياتنا تجاه كوكبنا وتجاه بعضنا البعض، هي بالضبط ما نحتاجه لبناء مدن ليست مذهلة فحسب، بل مستدامة وإنسانية حقاً للأجيال القادمة.