تحل اليوم الذكرى الخامسة والأربعون بعد الألف لميلاد أبي علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا، المعروف باسم “ابن سينا” أو “الشيخ الرئيس”. ولد هذا العالم الموسوعي في 22 أغسطس من عام 980 ميلادياً، الموافق لعام 370 هجرياً، في قرية أفشنة بالقرب من بخارى في أوزبكستان الحالية.
نشأة استثنائية ونبوغ مبكر
نشأ ابن سينا في أسرة مثقفة ومتعلمة، حيث كان والده عبد الله من مدينة بلخ في أفغانستان الحالية، وعمل محافظاً في إحدى القرى ثم انتقل مع عائلته إلى بخارى وعمل في وظيفة إدارية لدى السلطان نوح بن منصور. أما والدته فكانت تُدعى سيتارا وكانت من قرية أفشنة.
أظهر ابن سينا منذ طفولته ذكاءً خارقاً ونبوغاً مبكراً لافتاً للنظر. فقد حفظ القرآن الكريم بأكمله وهو في سن العاشرة فقط، وأصبح بارعاً في اللغة العربية وآدابها. درس الشريعة الإسلامية والفقه والفلسفة والمنطق والعلوم الطبيعية لمدة ست سنوات.
بدأ ابن سينا في دراسة الطب وهو في الثالثة عشرة من عمره، وأصبح طبيباً ماهراً في سن الثامنة عشرة، حيث اكتسب سمعة واسعة في مجال الطب في بلده وما حولها. وبحلول سن السادسة عشرة، كانت شهرته كطبيب قد انتشرت في جميع الآفاق.
الانطلاق العلمي والمهني
حققت شهرة ابن سينا الطبية نقطة تحول في حياته عندما نجح في علاج السلطان نوح بن منصور من مرض حيّر جميع أطباء المدينة. كافأه السلطان على هذا الإنجاز بالسماح له بالدخول إلى مكتبة السامانيد الملكية الخاصة، مما ساعده بشكل كبير في تعليمه الذاتي للفلسفة والعلوم المختلفة.
بدأ ابن سينا في الكتابة والتأليف وهو في عمر الحادية والعشرين، حيث كتب في مجالات متنوعة شملت الرياضيات والهندسة وعلم الفلك والفيزياء والميتافيزيقيا وعلوم اللغة والشعر والموسيقى. كان من الرسامين الموهوبين، كما بينت مخطوطاته التي احتوت على رسومات توضيحية رسمها بنفسه.
إنجازات طبية رائدة غيرت مسار التاريخ
يُعتبر ابن سينا من أوائل من كتبوا عن الطب في العالم، واتبع نهج أبقراط وجالينوس في الطب. ومن أبرز إنجازاته الطبية التي لا تزال مؤثرة حتى اليوم:
في مجال الأمراض والتشخيص
كان ابن سينا أول من وصف التهاب السحايا الأولي وصفاً صحيحاً ودقيقاً. وصف أسباب اليرقان بطريقة علمية متقدمة، وحدد أعراض حصى المثانة بدقة. اكتشف الأمراض المعدية وكيفية انتقال العدوى، وذكر أن الماء والهواء قد يحتويان على حيوانات صغيرة جداً لا تُرى بالعين المجردة وهي التي تسبب بعض الأمراض.
في مجال العلاج النفسي
يُعتبر ابن سينا أول من أدخل العلاج النفسي إلى عالم الطب، من خلال ملاحظاته الطبية الدقيقة ودراساته للاضطرابات العصبية، حيث كان يعالج مرضاه عن طريق التحليل النفسي. انتبه إلى أثر المعالجة النفسانية في الشفاء بطريقة سبقت عصره بقرون.
في مجال الطب التجريبي
كان ابن سينا يمارس الطب التجريبي بشكله الحالي في ذلك الزمان، إذ كان يبتكر الأدوية ويجربها على الحيوانات أولاً، فإن أثبتت فعاليتها يعالج بها مرضاه. اعتُبر بذلك واضع أسس الطب التجريبي.
إسهامات فلسفية وعلمية متنوعة
لم تقتصر عبقرية ابن سينا على الطب فحسب، بل امتدت إلى مجالات علمية وفكرية واسعة. كان فيلسوفاً بارزاً وعُرف باسم “أرسطو الإسلام”. عمل في السياسة وتقلد منصب الوزارة عدة مرات، وأصبح له نفوذ كبير.
درس وكتب في علم النفس والجيولوجيا والرياضيات وعلم الفلك والمنطق. أتقن العزف على العود سماعياً ونظرياً، وكان من أشهر أدباء وشعراء عصره. له قصيدة مشهورة في النفس تبدأ بقوله: “هبطت إليك من المحل الأرفع… ورقاء ذات تعزز وتمنع”.
مؤلفات خالدة أثرت في العالم
ترك ابن سينا تراثاً علمياً ضخماً يتكون من حوالي 450 كتاباً، نجا منها إلى يومنا هذا نحو 240 فقط. من بين هذه الأعمال المتبقية، 150 في مجال الفلسفة و40 في الطب. ومن أشهر مؤلفاته:
كتاب “القانون في الطب”
يُعتبر هذا الكتاب موسوعة علمية جمع فيها كل ما اكتشفه البشر في العلوم الطبية حتى عصره، وذكر فيه 600 علاج ممكن لأمراض منتشرة. ظل هذا الكتاب المرجع الرئيسي في علم الطب لسبعة قرون متتالية حتى أواسط القرن السابع عشر في جامعات أوروبا. تمت ترجمته إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر، وأعيد طبع الترجمة ستة عشر مرة في أواخر القرن الخامس عشر، وعشرين مرة في القرن السادس عشر.
كتاب “الشفاء”
وهو موسوعة فلسفية وعلمية واسعة النطاق، ضمن فيها ابن سينا علم الفلك والموسيقى والكثير من فروع الرياضيات.
تأثير عالمي وإرث خالد
أطلق الغربيون على ابن سينا لقبي “أمير الأطباء” و**”أبو الطب الحديث في العصور الوسطى”**. ترجمت كتبه في الطب إلى اللاتينية ومعظم لغات العالم، وظلت نحو ستة قرون المرجع العالمي في الطب، واستخدمت كأساس للتعليم في جامعات فرنسا وإيطاليا جميعاً. ظلت تُدرّس في جامعة مونبلييه حتى أوائل القرن التاسع عشر.
وصف المؤرخ البلجيكي جورج ساتون ابن سينا قائلاً: “إن ابن سينا ظاهرة فكرية عظيمة ربما لا نجد من يعادله في ذكائه ونتاجه الفكري الذي يُعد مرجعاً في الفلسفة في القرون الوسطى”.
كما ذكره الكاتب الإيطالي دانتي في كتابه الشهير “الكوميديا الإلهية” إلى جانب ابن رشد الأندلسي وصلاح الدين من المسلمين، وسقراط وأفلاطون من غير المسلمين.
وفاته وتوبته
توفي ابن سينا في همدان بإيران في شهر رمضان سنة 428 هجرية، الموافق للحادي والعشرين من يونيو عام 1037 ميلادياً، عن عمر ناهز 57 عاماً. وقد ذُكر أنه تاب في مرض موته، وتصدق بما معه، ورد المظالم على من عرفه وأعتق مماليكه، وجعل يختم القرآن في كل ثلاثة أيام.
خلاصة الإرث العلمي
بحسب بعض الأبحاث الحديثة، فإن آراء ابن سينا في تشخيص وعلاج بعض الأمراض مثل الربو، تُعد أكثر دقة وفعالية من نتائج الطب الحديث. كما أن الأدوية التي وصفها لعلاج اليرقان وانسداد القنوات الصفراوية وعسر الهضم الكبدي، تتوافق مع نتائج الأبحاث الحديثة.
يبقى ابن سينا رمزاً خالداً للعبقرية العلمية والفكرية في الحضارة الإسلامية، ونموذجاً للعالم الموسوعي الذي أثرى البشرية بإسهاماته المتنوعة في مختلف المجالات العلمية والفلسفية. وتبقى أعماله وإنجازاته شاهداً على عظمة الحضارة الإسلامية وإسهامها الجوهري في تقدم المعرفة الإنسانية.