في عالمٍ يعدو نحو المستقبل، تبرز رأس الخيمة كأكثر محميات الإمارات الثقافية إقناعاً؛ حيث تهمس جدرانٌ من حجارة المرجان بقصص تمتد لسبعة آلاف عام. لا تكتفي هذه الإمارة الشمالية بصون ماضيها، بل تحوّل الإرث إلى تجربة معيشة، وتدعوك لتسير في طبقات الزمن من دون أن تغادر راحة الفخامة المعاصرة.
وعلى خلاف أبراج الزجاج التي تُعرِّف جزءاً كبيراً من الخليج، تكمن كنوز رأس الخيمة نصف مدفونةٍ في رمالٍ ذهبية وعلى تلالٍ أكل الدهر أطرافها. هنا، يمكنك أن تشاهد الغروب فوق حصنٍ من القرن الثامن عشر بعد صباحٍ أمضيته في منتجعٍ شاطئي بكر؛ أو أن تستكشف هياكل قريةٍ للغوص بحثاً عن اللؤلؤ قبل عشاءٍ في مطعمٍ عالمي. هذا المزج السلس بين العتيق والحديث يخلق ما هو نادر: وجهةً تصبح فيها المغامرة الثقافية سلوكاً طبيعياً كالتنفس.
على ارتفاع 70 متراً فوق بساتين النخيل وأشجار التمر، يهيمن حصن ضاية على المشهد كأنه لقطة من “لورنس العرب”. وبصفته الحصن التلي الوحيد الباقي في الإمارات، شهد هذا الحارس الطيني كل شيء، ليغدو متحفاً حياً لتاريخ الشرق الأوسط.
يتطلّب الوصول إلى القمة اجتياز أكثر من 200 درجة حجرية متعرجة – رحلةٌ تتحوّل من فرجةٍ عابرةٍ إلى حجٍّ حقيقي. مع كل درجةٍ تصعدها، تبتعد أكثر عن العالم المعاصر في الأسفل، مارّاً بحدائق مُدرّجة رُويت قروناً بمياه السيول الجبلية. ويمنحك البرجان التوأم في القمة – اللذان بُنيا في القرن التاسع عشر فوق أساساتٍ أقدم – إطلالاتٍ بانورامية تمتد من جبال الحجر إلى الخليج العربي.
ولا تكمن فرادة حصن ضاية في موقعه الاستراتيجي أو براعته المعمارية فحسب، بل في طبقات الدراما الإنسانية المنسوجة في جدرانه. هنا كان آخر معاقل مقاومة القواسم أمام القوات البريطانية عام 1819؛ حيث صمد 400 مدافعٍ ثلاثة أيامٍ تحت قصفٍ مدفعي كثيف قبل أن يسلّموا. واليوم، يحوّل “الذهبي” جدران الطين المثخنة بجراح المعارك إلى شيءٍ مُشفّرٍ بالعذوبة، إذ تلتقطها أشعة المساء وتلقي ظلالاً كأنها ترقص مع أشباح الماضي.
وتعكس إدراجات الموقع على القائمة التمهيدية للتراث العالمي لليونسكو كونه أكثر من حصنٍ منفرد – إنه رأس منظومة دفاعيةٍ كاملة كانت تضم أبراج مراقبةٍ وتحصيناتٍ ثانوية وأنظمة مياهٍ تحت الأرض. ولا يزال بوسع الزائر اليوم رؤية اثني عشر قبراً ضخماً من «فترة وادي سوق» عند سفح الحصن – مدافن تعود إلى أربعة آلاف عام وتسبق أهرامات الجيزة.
مدينة أشباح على البحر
على بُعد عشرين كيلومتراً من راحة المدينة المعاصرة، ترقد “جزيرة الحمراء” في علْقٍ زمني – قريةُ غوصٍ لؤلئي محفوظةٌ على حالها كأن الزمن نسيها. تُعرف شعبياً بمدينة الأشباح، وتمنح هذه المستوطنة المبنية من حجر المرجان فرصةً نادرةً لتجوال قرية خليجية تقليدية كما كانت قبل أن يغيّر النفط وجه المنطقة.
واسمها، الذي يعني “الجزيرة الحمراء”، يعود إلى الرمل القِرمزي المميّز الذي كان يفصلها زمناً عن اليابسة عند المدّ. على مدى قرون، ازدهرت جزيرة الحمراء مركزاً للغوص والبحر، ونمت من مستوطنةٍ قبلية صغيرة إلى مجتمعٍ يقارب 4,000 نسمة مطلع القرن العشرين. وقد طوّرت قبيلة الزعاب الحاكمة تقاليد بحرية متقدمة، حافظت على أساطيل من الدُوْس (السفن الشراعية التقليدية) وشبكات تجارةٍ ربطت الخليج بأسواقٍ بعيدة.
يشبه المشي في جزيرة الحمراء اليوم ولوج موقع تصويرٍ مهجور – لكن كل تفصيلةٍ هنا أصلية. تتلوى الأزقة الضيقة بين بيوتٍ من حجر المرجان تحتوي جدرانها على أكثر من 11.97 مليون قطعة مرجان مجففة بالشمس، فيما يصفها باحثون بأنها «أرشيفٌ بحري مكتوبٌ بالحجر». كل قطعةٍ مرجانية تروي جزءاً من حكاية البيئة البحرية في الخليج، وبعض العينات مؤرخ إلى عام 1551 – لتغدو الجدران نفسها سجلاً لأربعة قرونٍ من الحياة البحرية.
ويكشف المعمار فهماً متقدماً للعيش الصحراوي: أبراجُ رياحٍ (براجيل) تُقنّن النسيم عبر الفناءات، وجدرانٌ مرجانية سميكة تعزل عن الحر، ومنصّات نومٍ مرتفعة تقتنص برودة الليل. أما المساجد والأسواق والمساكن فتشكّل منظومةً مدينيةً مكتملة، بموادَ استخرجت من البحر مباشرة: حجارة مرجانية، وصخور شاطئية متحجرة، وخشب قرم، وليف نخيل.
وما يجعل استكشاف جزيرة الحمراء مؤثراً على نحوٍ خاص هو احتفاظها بمشهد الحياة اليومية متجمّداً في الزمن. فمصابيح زيتٍ صدئة لا تزال في مداخل البيوت، وأوانٍ تقليدية مغبرّة في الأفنية، وأبواب خشبية ملوّنة مزخرفة بأنماط عربية تغلق غرفاً فارغة. وقد ترك أهلها المكان عام 1968 – تماماً فيما كان الثراء النفطي يعيد تشكيل المنطقة – ليخلُق ذلك تضايفاً مُوجعاً بين القديم والجديد.
الغوص في عمق ثقافة اللؤلؤ
لا تُفهَم حكاية رأس الخيمة من دون إدراك صلتها العميقة بالغوص للّؤلؤ، التقليد الذي شكّل اقتصاد الإقليم وهويته الثقافية لأكثر من سبعة آلاف عام. فالمياه الضحلة والدافئة في الخليج العربي وفّرت شروطاً مثاليةً لمحارات اللؤلؤ، فغدت لآلئ المنطقة مطلوبةً من البندقية إلى بومباي لبريقها وألوانها الاستثنائية.
لم يكن الغوص تجارةً فقط؛ بل نمطَ حياةٍ يربط مجتمعات الساحل بإيقاع البحر. استمر الموسم الرئيسي، «الغوص الكبير»، من يونيو إلى سبتمبر، حين توفّر المياهُ الدافئة الصافية والتياراتُ المواتية ظروفاً مثلى للعمل تحت الماء. وقد نظّمت مجتمعاتٌ بأكملها نفسها حول هذه الرحلات، مع طقوسٍ احتفالية عند انطلاق الأساطيل وعودتها.
وصاغت البنية الاجتماعية للغوص روابطَ تتجاوز الاقتصاد. حمل كل قارب صغير نحو 30 بحاراً بأدوارٍ متخصصة: النوخذا (مالك السفينة)، السردال (قائد الأسطول)، الغوّاصون، السُقّاط (مسؤولو الحبال)، وحتى الصبيةُ الذين يحضّرون الطعام ويُحيون الطاقم بالأغاني والشعر. وكان السردال الأقدم يفتتح موسم الغوص بطقوسٍ رسمية، فتحتشد المدن على الشاطئ لتوديع الأسطول.
أما المتطلبات البدنية فكانت خارقة. إذ كان الغواص المحترف يُجري ما يصل إلى 200 غطسةٍ في اليوم، يدوم كل منها دقيقتين إلى ثلاث باستخدام معداتٍ بدائية: أكياسٍ منسوجة لجمع المحار، ومشابك أنوفٍ من صدف السلاحف، وأحجارٍ مربوطةٍ بالساقين للتسريع في الهبوط. وكانت الأخطار دائمة—هجماتُ أسماكٍ، أعطالُ معدات، إصاباتُ “فُقاعات” الضغط، والإرهاقُ القاتل.
واليوم، يمكن للزائر اختبار هذا الإرث في «مزرعة لآلئ السويدي»، المزرعةَ التقليدية الوحيدة في الإمارات، حيث يشرح المرشدون تقنيات الغوص التاريخية وأساليب الاستزراع الحديثة. إنها تجربة تصل الحاضر بتقاليدٍ بحريةٍ شكّلت ليس رأس الخيمة فحسب، بل الهوية الثقافية للخليج كله.
عجائب أثرية… على مرأى العين
تفيض رأس الخيمة بمقدارٍ أثري يتجاوز أشهر مواقعها، إذ تضم أكثر من ألف موضعٍ يؤرّخ لاستيطانٍ بشري متصلٍ يمتد سبعة آلاف عام. وتحوّل هذه الكثافةُ الاستثنائية الإمارةَ إلى واحدةٍ من أطول المناطق سُكناً على نحوٍ متواصل في العالم، في مشهدٍ تتجاور فيه قبورُ العصر البرونزي مع قصورٍ إسلامية وتطوّراتٍ حديثة.
ويجسّد مجمّع «شَمِيل» الأثري هذا التراكب الزمني. فقبورُ “أمّ النار” الضخمة – أكبر منشآتٍ جنائزية مكتشفة في جنوب شرق الجزيرة العربية – تشاطر المكان مع استيطاناتٍ من أواخر العصر البرونزي، وتحصيناتٍ من العصر الحديدي، وبقايا إسلاميةٍ من العصور الوسطى. لا يقتصر الموقع على قيمته الأثرية؛ بل يقدّم خطاً زمنياً يمتد خمسة آلاف عام من التكيّف البشري مع قسوة البيئة العربية.
وتستمر الاكتشافات في إعادة كتابة تاريخ المنطقة. فقد كشفت حفرياتٌ في مواقع متعددة عن مستوطناتٍ برونزية متقدمة بأسوارٍ دفاعية ومساكن مُدرّجة وأنظمة إدارة مياه معقدة. لم تكن تلك مخيماتٍ بدويةً بسيطة؛ بل مستوطناتٌ دائمة بتنظيمٍ اجتماعي متقدّم وصلات تجارة بعيدة ومعمارٍ يضاهي حضاراتٍ معاصرة في بلاد الرافدين ووادي السند.
ويؤدي “المتحف الوطني برأس الخيمة” – المقام في حصنٍ مُرمَّم من القرن الثامن عشر – دور المركز التفسيري لهذا الثراء الأثري. تضم مجموعاته قطعاً تمتد من مجتمعات صيدٍ نيوليثية إلى العصر الذهبي الإسلامي، حين كانت رأس الخيمة – باسمها التاريخي “جلفار” – ميناءً تجارياً كبيراً يصل شرق أفريقيا بالصين.
تراثٌ حي في سياقٍ معاصر
ما يميّز رأس الخيمة عن سواها من الوجهات الثقافية هو انسياب التقاليد العتيقة في نسيج التجربة المعاصرة. لا يعيش الإرث هنا خلف واجهاتٍ زجاجية؛ بل في مشهدٍ حيٍّ حيث يؤثر المعمار التقليدي في تصميم المنتجعات الحديثة، وتُلهم تقنيات الغوص على اللؤلؤ أعمالاً تركيبية معاصرة، وتستقطب مسابقات الشعر البدوي جمهوراً دولياً.
ويمكن للزائر الحديث أن ينسّق يومه على هذا الإيقاع الثقافي-المعاصر: صباحٌ في مواقع أثرية، بعد ظهرٍ على الشاطئ في منتجعٍ فاخر، وصعودُ حصنٍ عند الغروب قبل عشاءٍ يجمع مطبخاً إماراتياً تقليدياً ومذاقاتٍ عالمية. ليست هذه «سياحةً قسرية» للتراث؛ بل اندماجٌ عضوي يحترم الإرث ويُجاري الراحة الحديثة.
وتجسّد أعمال الترميم في الإمارة هذا النهج الواعي. فالمشاريع الأخيرة – ومنها إعادة بناء برج مراقبةٍ عمره مئة عام في جزيرة الحمراء – تستخدم مواد وتقنيات تقليدية: حجر مرجان، عوارض قرم، وسع نخيل؛ مع توظيف أساليب حفظٍ حديثة لضمان الديمومة. النتيجة: أصالةٌ مصونة مع جعل المواقع قابلةً للوصول.
المشهد الثقافي اليوم
تتسع شهرة رأس الخيمة كوجهةٍ ثقافية، مع أربعة مواقع تراثية على القائمة التمهيدية لليونسكو وتنامي الوعي الدولي بقيمتها الأثرية. هذا الاعتراف ليس «تسويقاً سياحياً» فحسب؛ بل التزامٌ حقيقي بالحفظ يوازن بين الوصول والصون.
تركّز مقاربة الإمارة للسياحة الثقافية على «الانغماس لا المشاهدة». فالجولات التراثية في جزيرة الحمراء ليست “مشياً بصحبة دليل” وحسب؛ بل استكشافٌ لتقنيات الصيد والغوص التقليدية وابتكارات المعمار والبنى الاجتماعية التي صاغت مجتمعات الخليج قروناً. وعلى المنوال نفسه، تتضمّن زيارات حصن ضاية شرح ممارسات الدفن في العصر البرونزي ومعماراً عسكرياً إسلامياً وتاريخَ الحقبة البريطانية.
ويدعم البنيةَ التحتية الحديثة هذه التجارب من دون أن تطغى عليها. فنادق ومطاعم جديدة تستلهم المعمار التقليدي، بواجهات حجر مرجان وعناصر «أبراج رياح»، لصياغة فضاءاتٍ معاصرةٍ متصلةٍ بسياقها التاريخي. والنتيجة سياحةٌ ثقافية تشعر بأنها أصيلة لا مصنّعة.
وتحوّل شهور الشتاء رأس الخيمة إلى وجهةٍ ثقافية نموذجية؛ فالأجواء اللطيفة تسهّل الاستكشاف في الهواء الطلق، والمهرجانات تملأ الروزنامة. يستمر «مهرجان عوافي التراثي» ثلاثة أشهر من ديسمبر حتى فبراير، صانعاً احتفالاً متصلاً بالتقاليد الإماراتية عبر عروض الحِرف والأداءات الثقافية والأسواق الشعبية.
تحقّق رأس الخيمة أمراً لافتاً في شرقٍ أوسطٍ معاصر: تجعل العالم القديم حيّاً وراهناً. سواءٌ تسلّقت درجات حصنٍ صقلتها أقدامُ المدافعين قروناً، أو مشيتَ في بيوتٍ مرجانيةٍ خطّط فيها غواصون رحلاتهم، أو رأيتَ الغروب يلوّن قبور العصر البرونزي بذهبٍ رائق؛ فإنك تلاقي إرثاً يتجاوز “المشاهدة” إلى صلةٍ حقيقية باستمرارية الإنسان. ليست هذه سياحةً ثقافيةً تحبس الماضي في خزائن المتاحف؛ بل تراثٌ حي يُثبت أن فهم أصولنا يُغني تجربتنا المعاصرة. في رأس الخيمة، الماضي ليس محفوظاً في الكهرمان؛ إنه يتنفس، ويتكيّف، ويواصل تشكيل الحاضر.