في صباحٍ هادئ، يليق بامرأة عاشت أغلب حياتها بعيدًا عن الضجيج، ترحل الفنانة المصرية سمية الألفي، وتترك خلفها مسيرة فنية وإنسانية معقدة، ثرية، ومليئة بالتناقضات التي صنعت خصوصيتها. لم تكن نجمة من نوع الصدارة الصاخبة، ولا من الباحثات عن الضوء، بل فنانة اختارت أن تمشي في الظل بثبات، وأن تحفر اسمها ببطء في الذاكرة الجمعية للمشاهد العربي، مستندة إلى الصدق، والالتزام، والقدرة على التعبير الهادئ.
وُلدت سمية يوسف أحمد الألفي في 23 يوليو 1953 بمحافظة الشرقية، في بيت مصري تقليدي، ترك فيه الأب أثرًا عميقًا في تكوينها المبكر، قبل أن ترحل صدمته عنها وهي في السادسة عشرة من عمرها. كانت علاقتها بوالدها مفتاحًا لفهم شخصيتها لاحقًا؛ رجل زرع فيها حب جمال عبد الناصر وأم كلثوم، وربط بين الوطن والفن والاحتفال بالحياة، حتى إنها ظلت لسنوات تعتقد أن احتفالات 23 يوليو تقام خصيصًا لعيد ميلادها. تلك البراءة المبكرة ستظل مرافقة لها في اختياراتها، وفي نظرتها للفن بوصفه قيمة أخلاقية قبل أن يكون مهنة.
التحقت بكلية الآداب – قسم علم الاجتماع، وهو اختيار لم يكن بعيدًا عن وعيها الإنساني، واهتمامها بطبائع البشر وتفاصيلهم الدقيقة، وهو ما انعكس لاحقًا على أدائها التمثيلي. لم تدخل الفن من بوابة التمرد الكامل، بل من باب التفاوض مع الذات والأسرة والمجتمع. كانت تدرك منذ البداية أن دخول التمثيل في حياة والدها لم يكن ممكنًا، لكنها بعد رحيله قررت أن تسلك الطريق بالشكل الذي كانت تظن أنه كان سيرضيه لو بقي حيًا.
بدأت مشوارها الفني في سبعينيات القرن الماضي، عبر المسرح أولًا، بمشاركتها في مسرحية «أولاد علي بمبة» عام 1976، ثم سرعان ما انتقلت إلى التلفزيون، الذي سيصبح مساحتها الأهم والأكثر تعبيرًا عنها. جاء ظهورها الأول على الشاشة الصغيرة من خلال مسلسل «أفواه وأرانب» عام 1978، لتبدأ رحلة طويلة من الأدوار التي اتسمت بالتنوع، لكنها حملت خيطًا مشتركًا: امرأة من لحم ودم، قريبة من الواقع، بلا ادعاء.
لم تكن سمية الألفي ممثلة تبحث عن البطولة المطلقة بقدر ما كانت تبحث عن الدور الصادق. لذلك، ازدهرت مسيرتها في الدراما التلفزيونية، حيث قدمت شخصيات الأم، والزوجة، والمرأة المقهورة، والسيدة القوية في آن واحد. شاركت في أعمال شكّلت وجدان أجيال كاملة، مثل «ليالي الحلمية»، حيث حضرت في عمل ملحمي يرصد تحولات المجتمع المصري، وفيلم «علي بيه مظهر و40 حرامي»، فلم تكن أدوارها صاخبة، لكنها كانت ضرورية، تُكمل البناء الدرامي وتمنحه صدقه الداخلي.
في السينما، كانت مشاركاتها أقل، ليس بسبب قلة العروض، بل نتيجة محاذير وضعتها لنفسها. رفضت الأدوار الجريئة، والقبلات، وكل ما رأت أنه لا يشبهها، وهو قرار دفع ثمنه فنيًا من حيث الانتشار السينمائي، لكنه منحها احترامًا خاصًا، وجعلها نموذجًا لفنانة تعرف ماذا تريد، وماذا لا تريد.
حياتها الشخصية كانت وجهًا آخر للتعقيد. ارتبط اسمها طويلًا بالفنان الراحل فاروق الفيشاوي، في علاقة حب وزواج شغلت الرأي العام لسنوات. تعارفا في معهد التمثيل، وجمعتهما أحلام مشتركة وشغف بالفن، وأنجبا ابنيهما أحمد وعمر. لم تُخفِ سمية الألفي يومًا وجع هذه العلاقة، ولا الخيبات التي مرت بها، ولا حقيقة الخيانات، ولا صراعها مع إدمانه. لكنها، في الوقت نفسه، لم تنكر الحب، ولا الود الذي ظل قائمًا حتى بعد الانفصال. كانت علاقتها به مزيجًا من الألم والحنين والمسؤولية، وهو ما جعلها واحدة من أكثر الفنانات صراحة في الحديث عن الزواج، والانكسار، ومحاولات الحفاظ على الأسرة.
بعد انفصالها عن الفيشاوي، تزوجت من الملحن مودي الإمام، ثم المخرج جمال عبد الحميد، ثم المطرب مدحت صالح. زيجات قصيرة، لم تبحث فيها عن الاستقرار بقدر ما كشفت عن امرأة لا تريد أن تعيش وحيدة، لكنها في الوقت نفسه ترفض التنازل عن كرامتها أو قناعاتها. كانت تعترف أن حبها الأكبر ظل فاروق الفيشاوي، رغم كل شيء.
على المستوى الإنساني، عُرفت سمية الألفي بعلاقتها المعقدة بالأمومة. أجهضت 12 مرة قبل أن تنجب أحمد الفيشاوي، في رحلة ألم جسدي ونفسي طويلة، لم تتحدث عنها إلا لاحقًا بشجاعة. كما واجهت لاحقًا ألم البعد عن حفيدتها، وأزمات عائلية لم تُخفها، لكنها تعاملت معها بقدر من الصمت والكرامة.
في السنوات الأخيرة، دخل المرض حياتها بقسوة. أصيبت بمرض نادر في العمود الفقري نتيجة تكون أكياس من سائل النخاع الشوكي، وخضعت لعدد كبير من العمليات الجراحية، داخل مصر وخارجها. ورغم الألم، واجهت التجربة بصبر نادر، معلنة لاحقًا تعافيها، وموجهة الشكر للأطباء المصريين. كان المرض سببًا رئيسيًا في ابتعادها عن الشاشة منذ عام 2010، وقرارها بالتفرغ للعلاج والراحة.
ومع ذلك، لم تنقطع تمامًا عن الحياة الفنية. ظهرت في لقاءات نادرة، وحرصت على دعم ابنها أحمد الفيشاوي، وكان ظهورها الأخير في موقع تصوير فيلم «سفاح التجمع» لحظة إنسانية دافئة، أعادت للأذهان صورتها كأم، وكفنانة، وكجزء أصيل من هذا الوسط.




