التحقيق الذي نشرته صحيفة “واشنطن بوست” يرسم صورة مفصلة ومعقّدة عن الدور الإسرائيلي في الجنوب السوري بعد سقوط نظام بشار الأسد وصعود أحمد الشرع إلى السلطة، مع تركيز خاص على الدعم السري للحركات الدرزية المسلحة.
دعم سري مبكر بعد سقوط الأسد
يشير التحقيق إلى أن إسرائيل بدأت، بعد 9 أيام فقط من الإطاحة بالأسد في 8 ديسمبر 2024، بتنفيذ عمليات إنزال جوي سرية في جنوب سوريا، عبر مروحيات حملت مساعدات إنسانية إلى جانب 500 بندقية وذخيرة ودروع واقية، لصالح ميليشيا درزية عُرفت باسم “المجلس العسكري”. الهدف المعلن – وفق من تحدثت إليهم الصحيفة – كان حماية الدروز، لكن الهدف الإستراتيجي الأوسع تمثل في خلق قوة موازية تعقّد قدرة الشرع على توحيد البلاد تحت سلطة مركزية قوية، ومنع نشوء نظام يُنظر إليه في إسرائيل كامتداد لتيار جهادي معادٍ لها.
استراتيجية إسرائيل: منع نظام معادٍ وتثبيت ورقة الدروز
التحقيق يوضح أن صعود أحمد الشرع – الذي قاد سابقاً جماعة مرتبطة رسمياً بتنظيم القاعدة – أثار ريبة إسرائيلية عميقة، رغم محاولات لاحقة لفتح قنوات تفاوض معه. لذلك اتجهت تل أبيب إلى توظيف علاقتها التاريخية مع الدروز، الذين يشكّلون أقلية مؤثرة داخل إسرائيل نفسها، كـ”حليف طبيعي” في سوريا، عبر تمويل وتسليح مجموعات درزية، وتشكيل ما يشبه “منطقة عازلة” مدعومة إسرائيلياً في ريف السويداء وجبل الشيخ. هذه المقاربة ربطت بين هاجس الأمن الحدودي، والرغبة في عدم السماح بقيام سلطة مركزية سورية تعتبرها إسرائيل خطراً إستراتيجياً.
من تسليح مباشر إلى دعم غير قاتل
بحسب شهادات مسؤولين إسرائيليين ودروز نقلها التحقيق، بلغت شحنات السلاح ذروتها في ربيع 2025، مع تصاعد الاشتباكات بين مقاتلين دروز وقوى إسلامية موالية للشرع، وشملت أسلحة خفيفة ومتوسطة، وبنادق قنص، ومعدات رؤية ليلية، وحتى ذخائر ثقيلة وصوراً ميدانية من أقمار صناعية. لاحقاً، وبعد تبدّل الحسابات السياسية وبدء قنوات التفاوض غير المباشر مع الشرع، خفّضت إسرائيل مستوى التسليح، وانتقلت إلى التركيز على معدات “غير قاتلة” مثل الدروع الواقية والأدوية، مع استمرار دفع رواتب شهرية تقدّر بين 100 و200 دولار لنحو 3000 مقاتل درزي، ما يبقي على قوة مسلحة موازية خارج سيطرة دمشق الكاملة.
التداخل مع أدوار قسد والفاعلين الإقليميين
التحقيق يكشف أيضاً عن خط إسناد مالي ولوجستي متداخل بين إسرائيل و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) لصالح المجلس العسكري الدرزي: تحويلات مالية بمئات آلاف الدولارات، تدريب مقاتلين دروز – بينهم نساء – في مناطق كردية شمال سوريا، وتنسيق ميداني غير معلَن. هذا التشابك يعكس شبكة أوسع من الترتيبات غير الرسمية في شمال وشرق سوريا، حيث تسعى أطراف مختلفة – إسرائيل، قسد، وبعض العواصم الغربية – إلى بناء أوراق نفوذ في مرحلة ما بعد الأسد.
الانقسام الدرزي وتراجع الحماسة الإسرائيلية
على الجانب الداخلي الدرزي، يشير التحقيق إلى أن مشروع “دولة درزية” أو حكم ذاتي واسع، الذي روّج له الشيخ حكمت الهجري وبعض القادة الميدانيين، خلق انقسامات حادة بين الزعامات الدرزية، بما فيها خلافات شخصية وسياسية واتهامات بالفساد والتهريب والتقارب مع الشرع أو مع أطراف إقليمية أخرى. هذه الانقسامات، إلى جانب ذاكرة التجربة الإسرائيلية المريرة مع “جيش لبنان الجنوبي” في جنوب لبنان، جعلت صناع القرار في تل أبيب أكثر حذراً من الانزلاق إلى نموذج “ميليشيا وكيلة” بعيدة عن حدودهم، يصعب حمايتها على المدى الطويل.
التوتر مع واشنطن ومعادلة الشرع
من زاوية العلاقات الأمريكية–الإسرائيلية، يبيّن التحقيق وجود تباين واضح في المقاربة: إدارة ترامب جعلت دعم الشرع واستقرار سوريا تحت قيادته ركناً في سياستها الإقليمية، على أمل أن يسهم ذلك في خفض التوترات وإعادة اللاجئين وتقليص النفوذ الإيراني. في المقابل، اعتبرت مؤسسات الأمن في إسرائيل أن الرهان الأمريكي على اعتدال الشرع “ساذج”، واستمرت في ضرب أهداف داخل سوريا ودعم قوى ميدانية منافسة له، ما أثار إحباطاً متزايداً في واشنطن، بحسب مسؤولين أمريكيين سابقين نقلت عنهم الصحيفة.
بين منطق “حماية الدروز” وحدود التدخل
في السنوات الأخيرة، ومع تقدم المسار التفاوضي غير المباشر بين الشرع وإسرائيل، ومع ضغوط أمريكية وأوروبية للوصول إلى تفاهمات أمنية (منطقة عازلة منزوعة السلاح جنوب دمشق، ضمانات للدروز، ترتيبات في محيط جبل الشيخ)، بدأت تل أبيب تُعيد تقييم كلفة استمرار دعم مشروع انفصالي درزي واضح. الخبراء الذين استطلعتهم “واشنطن بوست” يرون أن إسرائيل تحاول اليوم الموازنة بين التزامها المعلن بـ”حماية الدروز”، وبين إدراكها لحدود قدرتها على رسم خريطة سياسية جديدة في سوريا من طرف واحد، خاصة في ظل حوار جارٍ مع نظام يسعى إلى تثبيت شرعيته داخلياً وخارجياً.
بهذا المعنى، يُظهر التحقيق أن سياسة إسرائيل تجاه الدروز السوريين انتقلت من مرحلة “التسليح المكثّف وبناء ذراع ميدانية” إلى مرحلة “الضغط السياسي المحدود والدعم الرمزي”، مع ترك الباب مفتوحاً أمام تسوية أمنية أوسع مع دمشق، تتضمن ترتيبات خاصة للطائفة الدرزية، لكن دون الذهاب إلى حد تبنّي مشروع “دولة درزية” مستقلة، الذي بات يُنظر إليه في تل أبيب على أنه مخاطرة إستراتيجية أكثر منه فرصة.




