يحرص علماء المصريات على بناء تسلسل دقيق لحُكّام مصر، لضبط مفاتيح التاريخ السياسي والحضاري. تتعدد أدواتهم؛ أهمها قوائم الملوك المنقوشة، وأساليب التأريخ العلمي الحديثة. وتتصدر «قائمة ملوك سقارة» هذه الأدوات، إذ توفر تسلسلاً شبه متصل لخمسة وخمسين قرناً، من الأسرة الأولى حتى التاسعة عشرة.
أهمية قائمة ملوك سقارة
اكتُشفت القائمة عام 1861 داخل مقبرة الكاهن «تونري» في سقارة، جنوب هرم أوناس. اللوحة من حجر جيري، طولها 2.6 متر، وتحمل صفَّين أفقيين يضمّان 58 خرطوشاً ملكياً، تبدأ برمسيس الثاني وتنتهي بالملك «عج إب» من الأسرة الأولى. رغم تهشُّم بعض الأسماء، بقي 47 اسماً واضحاً، ما يسمح بتأكيد التسلسل العام للفراعنة بين 2900 ق.م و 1200 ق.م.
أدوات علماء المصريات لتأكيد التسلسل
قوائم الملوك المتعددة
قائمة أبيدوس في معبد سيتي الأول، وتضم 76 ملكاً.
قائمة الكرنك المنقوشة بعهد تحوتمس الثالث؛ تحتوي أسماء 61 حاكماً.
بردية تورينو، وهي الأوسع نطاقاً، وتجمع الملوك مع مدة حكم كل منهم.
يطابق الباحثون هذه القوائم، مع ملاحظة إغفال بعضها للحكام «غير الشرعيين» أو الهكسوس، ومع عكس الترتيب أحياناً كما في الأسر الحادية عشرة والثانية عشرة بقائمة سقارة.
الدليل الأثري الطبقي (Stratigraphy)
الحفريات في سقارة وأبيدوس تُمكّن من مقارنة طبقات الدفن وآثار البناء، لتأكيد التسلسل المكاني والزمني لمقابر الملوك وكبار الموظفين.
التأريخ بالكربون المشع
العينات العضوية من مقابر مثل قبر الملك «قاع» تُفحص لتوفير تواريخ مطلقة، تُقارن مع التواريخ النسبية المستخلصة من القوائم.
الأدلة الفلكية
النقوش التي تذكر ظواهر كسوف أو ظهور نجم «سوبدِت» (الشِّعرى اليمانية) تقابل بحسابات فلكية حديثة لتثبيت تواريخ عهدية، ثم تُربط بقوائم الملوك.
كيفية قراءة قائمة سقارة
القائمة مرتبة عكسياً: الصف الأعلى يبدأ برمسيس الثاني، بينما الصف الأسفل ينتهي بالملك «عج إب». الجدول التالي يوضح جانباً من الأسماء الواضحة:
دور القائمة في التصحيح الزمني
يستعين الباحثون بالقائمة لتحديد الفجوات التاريخية، وخاصة قبل الدولة القديمة. فعلى سبيل المثال:
تُظهِر القائمة أربعة ملوك فقط من الأسرة الثالثة، بينما تؤكّد بردية تورينو وجود ثمانية؛ ما يدفع للاعتماد على الدليل المادي في مقابر زوسر وسخمت خت.
حُذِف اسم «أخناتون» وحكام الهكسوس، ما يشير إلى دلالات أيديولوجية وراء الاختيار.
منهجية التحقيق الحديث
جمع النصوص الأصلية من المتاحف: اللوحة معروضة الآن في القاعة 9 بالمتحف المصري بالقاهرة تحت رقم JE 11335.
فحص التوافق بين القوائم باستخدام قواعد بيانات رقمية مثل موقع «Pharaoh.se» الذي ينشر نسخاً دقيقة لخرطوش كل ملك.
مطابقة اللقب الملكي (البرنون) باللقب الشخصي (النومن) لضبط الترتيب، كما في حالة «نفر إر كا رع كاكاي».
دمج نتائج الأشعة والمسح ثلاثي الأبعاد بهدف توثيق موضع كل خرطوش ورسوخ الحجر لمنع مزيد من التهشُّم.
زيارة أثرية متاحة للجمهور
موقع سقارة مفتوح يومياً حتى الرابعة عصراً، وآخر دخول قبل الإغلاق بساعة. كما يقدّم المتحف المصري الكبير جولات تفاعلية تُبرز نسخة رقمية مكبَّرة للائحة، مع تعليق صوتي يشرح دلالاتها العلمية.
خلاصة
تُبرهن قائمة سقارة أن المصريين حفظوا ذاكرتهم الملكية بحروف من حجر. ومع استكمالها بأساليب التأريخ الحديثة، صار بإمكان علماء اليوم بناء جدول زمني يكاد يخلو من الثغرات. هذه المنهجية المتعددة المصادر تُحافظ على دقة التاريخ، وتتيح للزوّار الاطلاع المباشر على أدلةٍ عمرها ثلاثة آلاف عام، في قلب المتاحف المصرية. بذلك، يصبح الماضي حاضراً ملموساً، ويستمر كشف أسرار حضارةٍ سبقت عصرها بعشرات القرون.