في لاس فيغاس، حيث تتحوّل المؤتمرات التقنية عادةً إلى كرنفال للمصطلحات، قد يبدو اليوم الأول من re:Invent 2025 كأي يوم آخر في “موسم الذكاء الاصطناعي”. لكن إذا جمعنا خيوط ما قيل في الجلسات المغلقة، وما أُعلن في البيانات الرسمية، يتّضح أن AWS لا تبيع خدمات سحابية وحسب، بل تحاول أن تحجز لنفسها موقع “نظام التشغيل” غير المرئي لاقتصاد وكلاء الذكاء الصناعي، من بطاقات الدفع وحتى أنظمة التبريد في مخازن البقالة.
أوضح مؤشر على هذا التحوّل جاء من التعاون مع فيزا. الوكالة هنا ليست فكرة تجريدية، بل مخطط عمل كامل: منصة Visa Intelligent Commerce ستُطرح في AWS Marketplace، وبلو برنت جاهزة على AgentCore في Amazon Bedrock لوكلاء ذكاء اصطناعي مختصين بالتسوّق والسفر والمدفوعات قادرة على الاستكشاف، المقارنة، الحجز والدفع وحدها، من دون أن يكتب المستخدم أكثر من جملة واحدة. الفكرة بسيطة وخطيرة في آن واحد: المستقبل الذي تُبنى ملامحه هنا هو اقتصاد تُنفّذ فيه الآلات قرارات الشراء نيابة عن البشر، فيما تصبح AWS وفيزا طبقة الثقة والبنية التحتية التي تمرّ عبرها هذه القرارات.
في نفس الاتجاه، لكن في مجال البيانات المالية، دخلت شركة S&P Global (وهي من أكبر شركات المعلومات المالية في العالم) إلى عالم المساعدين الذكيين (AI Agents). الشركة تقدم أدوات ربط (MCP Servers) متصلة بخدمات أمازون السحابية (Amazon Quick Suite وAWS)، تسمح لهذه المساعدين الذكيين بطرح أسئلة معقدة عن أسعار الأسهم والطاقة والاقتصاد، والحصول على إجابات فورية من قواعد بيانات الشركة الضخمة، سواء من منصة التحليلات المالية (Capital IQ) أو من أخبار وأسواق الطاقة.

في الماضي، كان المحلل المالي يبحث عن المعلومات بنفسه من خلال شاشة بلومبرغ على مكتبه. الآن، أصبح المساعد الذكي (AI Agent) هو من يتواصل مباشرة مع أنظمة البيانات في الخدمات السحابية (Cloud). هذا يجعل اتخاذ القرارات أسرع وأدق، لكنه يطرح سؤالاً مهماً: عندما تصبح كل مصادر المعلومات المالية المهمة مرتبطة بمنظومة واحدة، ما حجم المخاطر التي قد نواجهها إذا تعطّل جزء من هذه المنظومة أو حدثت فيها مشاكل؟
وفي قلب هذا التحول المالي، تأتي شراكة بين بلاك روك (BlackRock)، أكبر شركة لإدارة الأموال في العالم، أمازون ويب سيرفيسز (AWS). منصة علاء الدين (Aladdin)، وهي أداة تستخدمها أكبر البنوك وصناديق الاستثمار لإدارة أموالها واتخاذ قراراتها الاستثمارية، ستنتقل للعمل على خوادم أمازون السحابية (AWS Cloud). هذا يعني مرونة أكبر للعملاء وإمكانية استخدام أكثر من خدمة سحابية (Multi-cloud)، لكنه يعني أيضاً أن أمازون أصبحت شريكاً أساسياً في المكان الذي تُتخذ فيه أهم القرارات الاستثمارية في العالم.
المثير للاهتمام أن أمازون نفسها، من خلال قسم إدارة أموالها (Treasury)، ستكون من أوائل المستخدمين لمنصة علاء الدين (Aladdin) على خوادمها السحابية (AWS). الرسالة واضحة: الهدف ليس فقط تشغيل برنامج على خوادم أمازون، بل ربط أهم نظام لإدارة المخاطر المالية في العالم بخدمات أمازون السحابية. وهذا يحدث في وقت تزداد فيه الأموال المُدارة عالمياً وتصبح الأسواق أكثر تعقيداً.
على الجانب الأمني، كان حديث مارك رايلاند، مدير الأمان في AWS مختلفاً عن العروض التسويقية المعتادة. عندما سُئل عمّا يُقلقه في 2025، لم يتحدث عن تهديدات خيالية، بل عن المشاكل اليومية المتكررة: رسائل الاحتيال الإلكتروني (Phishing)، والأنظمة التي لم تُحدَّث (Unpatched Systems)، وكلمات المرور القديمة المنسية في ملفات البرمجة (Leaked Credentials in Code Repositories).

اعترف بأن المهاجمين يستخدمون الذكاء الاصطناعي، لكن المشكلة الحقيقية أن كثيراً من الشركات لا تزال تفشل في إغلاق الثغرات البسيطة والمعروفة. في المقابل، يعتمد فريقه على مزيج من الحماية التقليدية وأدوات الذكاء الاصطناعي: منها “الفخاخ الرقمية” (Honeypots) وهي أنظمة وهمية تُوضع على أطراف الشبكة لاصطياد المخترقين، ونظام سوناريس (Sonaris) الذي يرصد العناوين الرقمية المشبوهة (Malicious IPs) ويحجبها تلقائياً. لكنهم حريصون على عدم ترك القرار النهائي للآلة إلا عندما تكون دقتها عالية جداً. أما في الحالات الأقل وضوحاً، فيُترك القرار للعميل الذي يمكنه تفعيل إعدادات حماية أقوى من خلال أدوات مثل جدار الحماية (WAF) أو مركز الأمان (Security Hub).
لكن الصورة تصبح أوضح عندما نرى ما تفعله شركة كراود سترايك (CrowdStrike)، وهي من أكبر شركات الأمن السيبراني، على منصة أمازون. الشركة تطلق نظام مراقبة أمني متطور (Next-Gen SIEM) يعمل على أمازون ويب سيرفيسز (AWS)، مع نظام دفع حسب الاستخدام عبر متجر أمازون للخدمات (AWS Marketplace). هذا النظام يتصل تلقائياً بأدوات أمازون الأمنية مثل: تتبع النشاطات (CloudTrail)، ومركز الأمان (Security Hub)، وكاشف التهديدات (GuardDuty). كما يرسل التنبيهات مباشرة إلى منصة فالكون (Falcon) الخاصة بالشركة، مع إمكانية البحث في البيانات المخزنة (S3) باستخدام أداة أثينا (Athena) دون الحاجة لنقلها.
ماذا يعني هذا عملياً؟ أن غرفة عمليات الأمن لدى أي شركة يمكن أن تعمل بالكامل داخل منظومة أمازون: من جمع البيانات الأمنية، إلى تحليلها، إلى الرد على التهديدات، وحتى الدفع والفواتير. هذا يجعل الأمور أسهل من الناحية التقنية، لكنه يطرح سؤالاً مهماً: كلما أصبح نظام الأمن يعمل بسلاسة أكبر على خدمة سحابية واحدة، أصبح الانتقال منها إلى غيرها أصعب وأكثر تكلفة.
في مجال صناعة السيارات، كان إعلان شركة نيسان مثالاً واضحاً على كيف تتحول كل هذه التقنيات إلى واقع نراه على الطريق. نيسان أطلقت منصة تطوير سحابية (Nissan Scalable Open Software Platform) تعمل على خدمات (AWS) لبناء الجيل الجديد من السيارات الذكية التي تعتمد على البرمجيات (Software-Defined Vehicles). هذه المنصة تختصر وقت اختبار برامج السيارات بنسبة 75%، وتربط أكثر من 5,000 مبرمج حول العالم للعمل معاً في بيئة واحدة. كما تخطط الشركة لاستخدام الذكاء الاصطناعي بشكل أوسع في تطوير أنظمة القيادة الذكية مثل بروبايلوت (ProPILOT) بحلول عام 2027.
هنا لا نتحدث عن برنامج أو تطبيق عادي على الإنترنت (SaaS)، بل عن تحوّل السيارة نفسها إلى جهاز يعمل بالبرمجيات، يتم تحديثه وتحسينه باستمرار من خلال منصة تطوير واحدة على خدمة سحابية واحدة. سرعة الابتكار هنا حقيقية، لكن الثمن هو أن “عمر” السيارة وصلاحيتها أصبح مرتبطاً بمنصة برمجية في السحابة، وليس بمهارة ميكانيكي في ورشة الحي كما كان في الماضي.
نفس التوجه يمتد إلى ما يُسمى “الذكاء الاصطناعي المادي” (Physical AI)، وهو الذكاء الاصطناعي الذي يتعامل مع العالم الحقيقي من خلال الروبوتات والآلات. برنامج ماس روبوتكس (MassRobotics Physical AI Fellowship)، الذي توسّع بالتعاون مع أمازون (AWS) ونيفيديا (NVIDIA)، يدعم الجيل الجديد من الروبوتات التي “تفهم” البيئة المحيطة بها وتتفاعل معها. البرنامج يقدم للشركات الناشئة: 8 أسابيع من الدعم التقني، وما يصل إلى 200 ألف دولار من أرصدة أمازون ويب سيرفيسز (AWS Credits)، بالإضافة إلى شبكة واسعة من المستثمرين والشركاء.
الشركات المشاركة تبني أشياء متنوعة: من معدات بناء تعمل بدون سائق، إلى روبوتات تخدم المرضى في المستشفيات، إلى هياكل آلية يرتديها المرضى لمساعدتهم على المشي (Exoskeletons)، وروبوتات للزراعة داخل البيوت الزجاجية. في معرض الذكاء الاصطناعي المادي (Physical AI Showcase) الذي حضرته، بدا الأمر كمختبر تجارب حقيقي: أمازون لا تبيع فقط قدرات الحوسبة، بل تحاول أن تكون البيئة التي تنمو فيها هذه الشركات الناشئة، قبل أن تصبح جزءاً أساسياً من حياتنا اليومية.
وإذا كان ما سبق هو الوجه الملموس للذكاء الاصطناعي (الروبوتات والآلات)، فإن شركة تويلف لابز (TwelveLabs) تقدّم وجهه البصري. نموذجها الجديد مارينغو 3.0 (Marengo 3.0)، المتاح الآن عبر منصة أمازون بيدروك (Amazon Bedrock)، يَعِد بفهم الفيديو بطريقة تشبه فهم البشر. هذا يعني أنه لا يحلل الفيديو صورة بصورة فقط، بل يتتبع الحركة والمشاعر والأحداث على مدى دقائق كاملة. مثلاً، يستطيع ربط جملة قيلت في بداية الفيديو بنظرة أو حدث يقع بعدها بثلاث دقائق. كل هذا مع تكلفة تخزين أقل بالنصف وسرعة معالجة مضاعفة.
الاستخدامات ليست ترفيهية فقط: من البث الرياضي والإعلانات، إلى الأمن العام والجهات الحكومية. الفيديو يتحول من أرشيف ثقيل يصعب البحث فيه، إلى قاعدة بيانات يمكن البحث فيها وتحليلها آلياً. في عالم كهذا، حتى تسجيلات كاميرات المراقبة في أي مدينة تصبح مصدراً غنياً بالمعلومات، لا للمشاهدين البشريين فقط، بل للمساعدين الذكيين (AI Agents) الذين يستطيعون طرح أسئلة عليها وتحليلها.

وسط كل هذه القفزات التقنية، يلفت النظر أن جزءاً من الحديث هذا العام ليس فقط عن قوة الذكاء الاصطناعي، بل عن تأثيره الفعلي على البيئة والكوكب. التعاون بين شركة تراين تكنولوجيز (Trane Technologies) المتخصصة في أنظمة التكييف، وأمازون (AWS)، من خلال شركة برين بوكس (BrainBox AI)، يقدم مثالاً عملياً: نظام ذكي يتحكم تلقائياً بالتدفئة والتهوية والتكييف (HVAC) في مستودعات توصيل البقالة التابعة لأمازون في أمريكا الشمالية. النتائج في ثلاثة مواقع تجريبية كانت مبهرة: انخفاض في استهلاك الطاقة بنسبة 15% تقريباً، أي أكثر من ضعف الهدف المتوقع. والخطة الآن هي التوسع إلى أكثر من 30 موقعاً. المشروع يُقدَّم كجزء من خطة أمازون للوصول إلى صفر انبعاثات كربونية (Net Zero) بحلول 2040. لكنه يطرح سؤالاً آخر: إذا كانت المباني الضخمة يمكن أن تصبح “ذكية” وتتعلم كيف تستهلك الطاقة بنفسها، فمن الذي يملك البرامج التي تقرر متى نوفر الطاقة ومتى نضحي براحة الناس؟ مرة أخرى، تجلس أمازون (AWS) في المنتصف بين المبنى والقرار.
حتى في التفاصيل الثقافية والترفيهية، تظهر رغبة (AWS) في أن تكون موجودة في كل مكان. مثال على ذلك: البث المباشر لكلمات مؤتمر ري:إنفنت (re:Invent) داخل جزيرة خاصة في لعبة فورتنايت (Fortnite) الشهيرة، من خلال تجربة تفاعلية اسمها “AWS re:Invent Keynote Racer”. هذا ليس مجرد حركة تسويقية ذكية.
الفكرة الأعمق هي أن مطوري الألعاب والجيل الشاب الذي يقضي وقته في العوالم الافتراضية، سيجدون أمازون جزءاً طبيعياً من حياتهم اليومية: من خدمات بث الفيديو (AWS Media Services)، إلى قاعدة بيانات الألعاب (IGDB)، إلى منصة البث المباشر تويتش (Twitch) التي تملكها أمازون. كل هذا داخل لعبة يستخدمها مئات الملايين حول العالم.
ملاحظة طريفة: البيان الصحفي أكد أن تصميم الجزيرة تم يدوياً ولم يستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي. هذه تبدو كغمزة ساخرة في مؤتمر كل حديثه عن الذكاء الاصطناعي!
في الخلفية، يكرر مارك رايلاند فكرة بسيطة لكنها جوهرية: التكنولوجيا، بما فيها الذكاء الاصطناعي والوكلاء والأتمتة، ليست سوى مضخّم لقدرات البشر؛ يمكنها أن تضاعف الكفاءة، أو تضاعف الخطأ والنية السيئة. ما فعلته AWS في اليوم الأول من re:Invent 2025 هو محاولة ضبط هذا “المضخّم” داخل إطار واحد: طبقة أمنية تستخدم الذكاء الاصطناعي للدفاع، طبقة بيانات مالية وتجارية متصلة، طبقة صناعة ونقل تعتمد على منصات تطوير موحّدة، ومشاريع مناخية تُدار بخوارزميات تتعلم في الزمن الحقيقي.
السؤال الذي يخرج به المشارك من هذا اليوم ليس “ما هو المنتج الأحدث أو الخدمة الأكثر “ذكاءً”؟ بل سؤالان أعمق: الأول: من سيملك المساعدين الذكيين (AI Agents) الذين سيجلسون بيننا وبين الاقتصاد، ويتخذون القرارات نيابة عنا؟ الثاني: من سيتحمل المسؤولية عندما يخطئ هذا المساعد الذكي؟ سواء كان الخطأ في قرار استثماري خاسر، أو في ثغرة أمنية، أو في إدارة مبنى يستهلك طاقة تعادل استهلاك دولة صغيرة؟
اليوم الأول أعطى ملامح واضحة للاعب الذي يريد أن يكون الإجابة عن كلا السؤالين. بقية الأسبوع ستكشف فقط إلى أي مدى سيقبل الشركاء والعملاء بأن تكون هذه الإجابة مكتوبة بحبر AWS.
اليوم الأول من المؤتمر أعطى صورة واضحة بأن (AWS) تريد أن تكون هي الإجابة عن كلا السؤالين، أن تملك المساعدين الذكيين، وأن تكون المسؤولة عن إدارتهم. بقية الأسبوع ستكشف فقط إلى أي مدى سيقبل الشركاء والعملاء بأن تكون أمازون هي من يكتب قواعد هذا المستقبل؟




