لطالما ارتبطت الشفافية بالقيم النبيلة: الصدق، النزاهة، والمساءلة. فهي تعني، في جوهرها، أن تقول الحقيقة كما هي — دون تلميع أو اجتزاء. لكنها في عصر المنصات والضغوط الرقمية، لم تعد تُمارَس كما كانت. بل غدت الشفافية، في كثير من الأحيان، مجرّد أداء محسوب بعناية، يُقدَّم بذكاء ليُظهر الصدق… لا ليكون صادقاً.
في هذا العصر، نشهد اعتذارات عاطفية مصمّمة بعناية لتبدو مؤثرة، لا صادقة. نرى لحظات “انكشاف” موقّتة تُدرج ضمن جداول المحتوى الموسمية. وحتى بعد الأزمات، تُصاغ رسائل تُقدَّم على أنها شجاعة، لكنها كثيراً ما تكون محاولة لتغيير السرد لا لمواجهة الواقع.
لا يعني ذلك أن الجميع يضلّل، لكننا نعيش زمنًا باتت فيه الصراحة تُستبدل بالاستعراض، والوضوح يخضع لحسابات التوقيت والمكاسب. يُروّج لأن “الواقعية تولّد الثقة”، وأن القادة لا بدّ أن يُظهروا هشاشتهم، وأن المؤسسين يجب أن “يبنوا على العلن”. وكل ذلك قد يحمل نية حسنة — لكن فقط عندما يصدر عن قناعة حقيقية. أما حين تُصبح الشفافية جزءًا من هوية تسويقية، فهي تفقد معناها، وتتحوّل من ممارسة إنسانية إلى عنصر تجميلي في استراتيجية العلاقات العامة.
اليوم، قلّما نرى صدقًا خامًا. معظم ما يُعرَض علينا هو محتوى مُعدّ بعناية، ومُصادق عليه، ومُعَدّ للنشر. حتى الفوضى باتت تبدو منظمة. الاعترافات محسوبة، والرسائل “العفوية” لا تخلو من تخطيط مسبق.
لكن الإشكال لا يكمن فقط في الشكل — بل في الجوهر. حين يُستَخدَم مظهر الشفافية للسيطرة على السرد، لا لمكاشفة حقيقية، فإننا نقترب من أزمة أعمق: أزمة ثقة.
حين تُستخدم الشفافية كوسيلة للهيمنة
شهدنا شركات تتبنّى شعارات “الانفتاح الكامل”، بينما لا تكشف إلا ما يعزّز روايتها الخاصة. تابعنا قادة يقدّمون اعتذارات علنية مؤثرة، لا من باب تحمّل المسؤولية، بل للحفاظ على الصورة العامة. حتى المؤثرين الذين يشاركون “لحظاتهم الصادقة”، غالباً ما تكون تلك اللحظات مرتبطة بحملات مدفوعة أو محتوى تجاري.
النتيجة؟ شفافية تبدو صادقة، لكنها مُتحكّم بها بما يكفي لتفادي أي محاسبة. الهدف ليس بالضرورة فتح باب النقد، بل إحكام السيطرة عليه. وليس منح الجمهور نافذة على الواقع، بل وهمًا بالوصول.
مثل هذه الممارسات لا تُضعف ثقة الجمهور فحسب، بل تعيد تشكيل مفهوم الصدق نفسه. فتصبح الهشاشة موضع شك، والانفتاح الحقيقي مريبًا لأنه يشبه التجميل الإعلامي. تذوب الحدود، ويتراجع الجمهور — لا عن المتابعة، بل عن الثقة.
الشفافية الحقيقية… ليست سهلة
الشفافية الحقيقية تتطلب شجاعة. وغالبًا ما تكون مكلفة — سياسيًا، إعلاميًا، وحتى شخصيًا. هي أن تبادر بقول الحقيقة لا أن تُجبر عليها. أن تفصح عن البيانات حتى إن لم تكن في صالحك. أن تفتح المجال للنقد بينما لا يزال الوضع غامضًا.
الصدق لا يعني عرض كل شيء أمام الجميع، بل منح الوصول الحقيقي لمن يستحق. الشفافية ليست عرضًا جماهيريًا ولا لحظة مؤثرة على وسائل التواصل. هي التزام أخلاقي داخلي، لا أداة في صندوق أدوات العلاقات العامة.
والسؤال الذي يجب أن يُطرح دائمًا:
“لو لم يكن أحد يشاهد، هل كنت ستشارك هذا؟”
اختبار بسيط: هل ما نراه صراحة أم تمثيل؟
لكل من يعمل في مجالات الاتصال، القيادة، بناء الهوية أو التأثير في الرأي العام، يمكن طرح هذه الأسئلة لفحص صدقية ما يُقدَّم على أنه شفافية:
• هل سأقول هذا لو لم يُحسّن صورتي العامة؟
• هل أفتح نافذة حقيقية أم أتحكم بالسرد؟
• هل الهدف هو الاعتراف بالأمر كما هو، أم السيطرة على الأزمة؟
• ما الذي أتجنّب الإفصاح عنه؟ ولماذا؟
• من المستفيد الحقيقي من هذا “الانفتاح”؟
الثقة لا تُصنع من الأداء
قد تُنتج الشفافية المصطنعة تفاعلاً، لكنها لا تبني علاقة. وقد تُكسب الاستراتيجيات الذكية بعض المكاسب، لكنها لا تصنع ولاءً. وحدها الشفافية التي تُمارَس باستمرار، وتُبنى على قناعة، وتُدفع كلفتها… هي التي تُثمر الثقة.
وثقة الجمهور، في عالم يعج بالضجيج، هي أثمن ما يمكن أن تملكه أي علامة تجارية أو شخصية قيادية — وهي، ببساطة، لا يمكن اصطناعها.