كشف باحثون في جامعة كيوتو عن آلية علمية قد تشكل نقطة تحول في علاج الاضطرابات النفسية المرتبطة بالصدمات، حيث نجحوا في إضعاف الذكريات الصادمة لدى الفئران من خلال استهداف بروتين محدد في الدماغ دون التسبب بأي ضرر للأنسجة العصبية.
تركز الدراسة على عملية تُعرف باسم “إعادة التوطيد” (Reconsolidation)، وهي آلية طبيعية يعيد فيها الدماغ ترسيخ الذكرى في كل مرة تُسترجع. خلال هذه العملية، تصبح الذكريات المستقرة مؤقتاً قابلة للتعديل، مما يفتح نافذة زمنية محدودة يمكن خلالها تغيير قوة الذكرى أو محتواها العاطفي. هل يمكنك تخيل حياتك بدون الذكريات السيئة لقدت تناول النجم جيم كاري هذه الفكرة في فيلم Eternal sunshine.
البروتين المستهدف ودوره في تكوين الذكريات
يلعب بروتين CREB (cAMP Response Element Binding Protein) دوراً محورياً في هذه العملية، حيث يعمل كعامل نسخ يربط بين الإشارات الخلوية وتنشيط الجينات المسؤولة عن تكوين الذكريات طويلة المدى. عندما تُسترجع ذكرى خوف مؤلمة، يزداد نشاط هذا البروتين، مما يؤدي إلى تنشيط مسارات جزيئية معقدة تعمل على إعادة ترسيخ الذكرى وتقويتها.
تُظهر الأبحاث أن الشكل النشط من البروتين المُسمى ACCREB (Activated CREB) يصبح أكثر فعالية أثناء عملية إعادة التوطيد، حيث يحفز إنتاج بروتينات جديدة ضرورية لتقوية الروابط العصبية في مناطق الدماغ المسؤولة عن الذاكرة، وخاصة اللوزة الدماغية والحصين.
التقنية المبتكرة لإضعاف الذكريات
طور الباحثون في جامعة كيوتو تقنية متطورة تستخدم الضوء لتعطيل البروتينات الأساسية المشاركة في عملية إعادة التوطيد. تعتمد هذه الطريقة على حقن الفئران بفيروس معدل وراثياً يحمل بروتيناً حساساً للضوء مدموجاً مع بروتين “كوفيلين” (Cofilin) المهم لإعادة تشكيل الهيكل الخلوي أثناء تقوية الروابط العصبية.
عند التعرض للضوء، يطلق هذا البروتين المهجن أنواع أكسجين تفاعلية تعمل على تعطيل كوفيلين بشكل انتقائي في الخلايا العصبية النشطة مؤخراً. هذا التعطيل المؤقت يمنع عملية تقوية الروابط العصبية دون الإضرار بالخلايا أو التأثير على الذكريات الأخرى.
النتائج التجريبية المذهلة
في التجارب المخبرية، تم تعريض الفئران لصدمة كهربائية خفيفة في غرفة مظلمة لتكوين ذكرى خوف. بعد ذلك، تم تطبيق العلاج بالضوء في لحظتين حرجتين: فور حدوث الصدمة وأثناء النوم اللاحق عندما تحدث عملية ترسيخ الذكريات.
أظهرت النتائج أن الفئران المعالجة فقدت خوفها من الغرفة المظلمة تماماً، حيث عادت للدخول إليها دون تردد، بينما احتفظت الفئران غير المعالجة بسلوك التجنب. الأهم من ذلك أن الذكريات الأخرى للفئران المعالجة بقيت سليمة، مما يدل على دقة التقنية وانتقائيتها.
الآليات الجزيئية وراء النجاح
تعتمد فعالية هذه التقنية على فهم دقيق للآليات الجزيئية لتكوين الذكريات. عندما تُسترجع ذكرى مؤلمة، تنشط مسارات إشارية متعددة في الدماغ تشمل مستقبلات NMDA وإنزيم CaMKII وبروتين CREB.
هذه المسارات تؤدي في النهاية إلى تنشيط الجينات المسؤولة عن إنتاج بروتينات جديدة في نقاط الاشتباك العصبي. من خلال تعطيل كوفيلين في اللحظة المناسبة، تمكن الباحثون من قطع هذه السلسلة الجزيئية ومنع تقوية الذكرى المؤلمة.
مقارنة مع الأساليب التقليدية
تتميز هذه التقنية عن العلاجات التقليدية لاضطراب ما بعد الصدمة بعدة جوانب مهمة. العلاج بالتعرض التدريجي، وهو العلاج النفسي الأكثر استخداماً حالياً، يعتمد على إنشاء ذكريات جديدة تنافس الذكرى المؤلمة دون محوها فعلياً.
في المقابل، تعمل التقنية الجديدة على إضعاف الذكرى الأصلية نفسها، مما قد يوفر حلاً أكثر دوماً. كما أن الأدوية المثبطة لتركيب البروتين المستخدمة حالياً في البحوث تؤثر على الدماغ بشكل عام وقد تسبب آثاراً جانبية خطيرة.
التطبيقات المحتملة في علاج البشر
يأمل الباحثون في تطوير هذه التقنية لتصبح قابلة للتطبيق على البشر في المستقبل. إحدى الطرق المقترحة تتضمن استخدام الموجات فوق الصوتية المركزة مع محفزات جزيئية لتجنب الحاجة إلى الفيروسات.
هذا التطوير قد يفتح المجال أمام علاجات جديدة لمجموعة واسعة من الاضطرابات النفسية، بما في ذلك اضطراب ما بعد الصدمة، والرهاب المحدد، واضطرابات القلق. كما قد يساعد في علاج إدمان المواد المخدرة من خلال إضعاف الذكريات المرتبطة بالمواد المسببة للإدمان.
التحديات والاعتبارات الأخلاقية
رغم الإمكانات الواعدة لهذه التقنية، تثير أسئلة أخلاقية مهمة حول حدود التلاعب بالذاكرة البشرية. فالذكريات المؤلمة، رغم صعوبتها، قد تحمل دروساً مهمة للبقاء والتعلم.
يؤكد الباحثون أن هدفهم ليس محو الذكريات بالكامل، بل استعادة التوازن في الحالات التي تصبح فيها الذكريات سجناً نفسياً للمرضى. كما يشددون على ضرورة تطبيق هذه التقنية بدقة علاجية عالية تستهدف الذكريات المحددة دون التأثير على جوانب أخرى من الشخصية.
مستقبل البحث والتطوير
يخطط الفريق البحثي لمواصلة تطوير التقنية لتصبح أقل تدخلاً وأكثر أماناً. يشمل ذلك البحث عن طرق توصيل بديلة لا تعتمد على الفيروسات، وتحسين الدقة المكانية والزمانية للتدخل العلاجي.
كما يعمل الباحثون على دراسة الآثار طويلة المدى للعلاج والتأكد من عدم ظهور تأثيرات جانبية غير متوقعة. هذه الخطوات ضرورية قبل الانتقال إلى التجارب على الرئيسيات العليا ومن ثم الإنسان.
خلاصة الاكتشاف العلمي
تمثل هذه الدراسة خطوة مهمة في فهم الأسس الجزيئية للذاكرة وطرق تعديلها. من خلال استهداف بروتين ACCREB وعملية إعادة التوطيد، نجح الباحثون في إنجاز ما كان يُعتبر من قبيل الخيال العلمي: تعديل الذكريات بدقة دون الإضرار بوظائف الدماغ الأخرى.
هذا التقدم يفتح آفاقاً جديدة في علاج الاضطرابات النفسية ويقدم أملاً لملايين المرضى الذين يعانون من آثار الصدمات النفسية المدمرة. مع مواصلة البحث والتطوير، قد نشهد في المستقبل القريب ولادة جيل جديد من العلاجات النفسية القائمة على فهم دقيق للآليات الجزيئية للدماغ البشري.