تحقيق صحفي أوروبي واسع كشف أن متبرعًا واحدًا بالحيوانات المنوية أنجب ما لا يقل عن 197 طفلًا عبر 67 عيادة في 14 دولة، وسط صدمة وغضب في الأوساط الطبية والقانونية بسبب حمله طفرة جينية نادرة مرتبطة بمتلازمة “لي–فروميني” تزيد احتمال الإصابة بالسرطان حتى 90% مدى الحياة. المتبرع، الذي جرى التعامل معه في السجلات باسم ورقم مجهول، تبرّع لحوالي 17 عامًا في بنك أوروبي للحيوانات المنوية في الدنمارك، قبل أن تُكتشف الطفرة عام 2023 ويُحظر استخدام نماذجه، بعد أن كان قد استُخدم بالفعل على نطاق واسع داخل وخارج بلده.
ما طبيعة الخلل الجيني وما حجم الضرر؟
الطفرة مرتبطة بجين TP53 المسؤول عن كبح الأورام، وعندما يتعطل بفعل المتلازمة يزداد خطر الإصابة بأنواع متعددة من السرطان في الطفولة أو الشباب، مثل سرطانات الدم والدماغ والعظام. التحقيق أظهر أنه من بين 67 طفلًا تم فحصهم حتى الآن، حَمَل 23 الطفرة، وتم تشخيص 10 بالفعل بأنواع مختلفة من السرطان، مع تسجيل حالات وفاة مبكرة لبعض الأطفال، بينما يُخشى أن تظهر إصابات إضافية لاحقًا مع تقدم العمر. المتبرع نفسه مصاب بما يسمى “فسيفساء جينية”؛ أي أن الطفرة لا توجد في كل خلايا جسده، بل في نسبة من الحيوانات المنوية تصل إلى 20% تقريبًا، ما يجعل بعض الأطفال مولودين أصحاء وراثيًا، وآخرين يحملون الخلل في كل خلية من خلاياهم.
ثغرات ضخمة في تنظيم بنوك الحيوانات المنوية
القضية سلطت الضوء على غياب تنظيم دولي صارم لعدد الأسر والأطفال المسموح إنجابهم من متبرع واحد، إذ أظهر التحقيق أن هذا المتبرع تجاوز بكثير الحدود المعمول بها في عدة دول. ففي بلجيكا مثلًا، الحد الأقصى هو 6 أسر فقط، لكن تم تسجيل 53 طفلًا لعدد 38 امرأة من نفس المتبرع، بينما تشير بيانات البنك الأوروبي إلى أن 99 طفلًا وُلدوا في الدنمارك وحدها، و35 في إسبانيا، مع حالات أخرى في دول مثل ألمانيا واليونان وإيرلندا وبولندا وألبانيا وكوسوفو وغيرها. البنك الدنماركي الذي وزّع العينات أقرّ بأن المتبرع “استُخدم بشكل مفرط” وتجاوز سقفه الداخلي البالغ 75 أسرة، وألقى باللوم على “ضعف أنظمة الإبلاغ وتدفق المرضى عبر الحدود (سياحة الخصوبة)”، معلنًا تجميد استخدام عينات المتبرع فور اكتشاف الطفرة.
صدمة العائلات والمخاطر النفسية والاجتماعية
العائلات التي اكتشفت لاحقًا أن أطفالها وُلدوا من متبرع يحمل طفرة قاتلة عبّرت عن إحساس عميق بالخيانة، لأن الفحوص الروتينية التي أُجريت للمتبرع عند التبرع لم تكشف الخلل، كما لم تُبلّغ الأسر باحتمال وجود خطر وراثي إلا بعد سنوات. بعض الآباء والأمهات يواجهون الآن وضعًا معقدًا: أطفال يحتاجون إلى متابعة طبية شديدة الصرامة وإمكانات فحوص متكررة، إلى جانب صدمة معرفتهم لاحقًا بأن لديهم عشرات، وربما مئات، من الإخوة غير الأشقاء المنتشرين في أوروبا، ما يثير مخاوف من تعقيدات هوية وانتماء وعلاقات مستقبلية. خبراء الأخلاقيات الطبية والوراثة وصفوا القضية بأنها “مأساة للجميع”؛ للمتبرع الذي لم يكن يعلم بحالته، وللأطفال الذين يواجهون خطر السرطان، وللأسر التي كانت تبحث عن الأمل في الإنجاب فوجدت نفسها في قلب أزمة صحية ونفسية.
دعوات لإصلاح جذري لقواعد التبرع بالمني
إثر التحقيق، تصاعدت الدعوات في أوروبا لوضع حدّ عالمي أو أوروبي موحّد لعدد الأسر المسموح لها باستخدام متبرع واحد، مع إنشاء سجل مركزي يمكنه تتبّع المتبرعين والأطفال عبر الحدود، تجنبًا لتكرار حالة وصول عدد الأبناء لمئات من متبرع واحد. كما أوصى خبراء الوراثة بإعادة تقييم بروتوكولات الفحص في بنوك الحيوانات المنوية، بما في ذلك إدخال تحاليل جينية أوسع حين يكون ذلك ممكنًا، والتشديد على التبليغ الفوري لأي خلل يُكتشف لاحقًا في متبرع استخدمت عيناته سابقًا. القضية فتحت أيضًا نقاشًا أخلاقيًا حول مدى حق الأطفال المولودين من تبرع مجهول في معرفة أصلهم الجيني، خاصة في الحالات التي تنطوي على مخاطر صحية جسيمة، ما يجعل عبارة “صدمة في أوروبا” توصيفًا دقيقًا لأبعادها الطبية والقانونية والاجتماعية.




