لا يقدّم المخرج الصيني تشانغ تشونغتشن مسيرته السينمائية بوصفها قصة نجاح خارقة، بل باعتبارها مسارًا بطيئًا من التعلّم والمراقبة والاحتكاك اليومي بالحياة. فقد بدأ رحلته بعيدًا تمامًا عن عالم السينما، عاملًا في المصانع، ثم حارس أمن في مهرجان بكين السينمائي، قبل أن يجد طريقه لاحقًا إلى الإخراج. ويؤكد أن تلك السنوات، التي قضاها على هامش الصناعة، كانت التربة الحقيقية التي تشكّلت فيها نظرته للسينما، لا باعتبارها فنًا استعراضيًا، بل وسيلة لفهم البشر، وتسجيل ما يمر عادة من دون انتباه.
يرى تشانغ الذي حصد فيلمه “أصوات الليل” جائزة “اليسر لأفضل مساهمة سينمائية” في النسخة الخامسة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي أن اقترابه المبكر من صناع الأفلام، أثناء عمله كحارس أمن، لم يكن مدفوعًا بحلم النجومية أو التقليد، بل برغبة صامتة في الفهم.
كان يشاهد المخرجين والممثلين وهم يعملون، يراقب طريقتهم في التواصل واتخاذ القرار، ويختزن تلك التفاصيل الصغيرة التي لا تظهر على الشاشة. هذه التجربة انعكست لاحقًا على أفلامه، التي تميل إلى الإنصات أكثر من الخطابة، وإلى التقاط الإيماءات الخافتة بدلًا من اللحظات الصاخبة.
بعد تجربته الروائية الطويلة الأولى، التي استلهم فيها جانبًا مباشرًا من عمله السابق كحارس أمن، اختار تشانغ في فيلمه الثاني “أصوات الليل” أن يبتعد خطوة عن سيرته الذاتية، ويتجه إلى مساحة أوسع، تتمثل في الحياة الريفية للنساء في الصين.
يوضح أن الفيلم لا يسعى إلى تقديم حكاية واحدة مكتملة، بل يرسم خريطة شعورية لمجموعة من الشخصيات التي تعيش أشكالًا مختلفة من الفقد، والحرمان، والعزلة، في مجتمع تحكمه تقاليد راسخة وسلطة أبوية ممتدة.
في قلب الفيلم تقف الطفلة وينوين، التي تُنتزع من أمها قسرًا بقرار من الجد، بدافع الرغبة في إنجاب ذكر. هذه اللحظة، كما يشرح تشانغ، لا تمثل مجرد حدث درامي، بل جرحًا تأسيسيًا، يُبنى عليه إحساس طويل بالحرمان من الحب. في المقابل، تظهر شخصية المرأة التي تُوصَف بالجنون، والتي تختار الابتعاد عن أمومتها، سعيًا وراء حياة أفضل، لتقدم نموذجًا مغايرًا للفقد، حيث يصبح الهروب نفسه شكلًا من أشكال الألم.
ومن خلال هذه الخطوط المتوازية، يطرح الفيلم سؤالًا مركزيًا حول الأمومة، لا بوصفها حالة بيولوجية فقط، بل علاقة هشّة يمكن أن تُقطَع أو تُشوَّه بفعل السلطة الاجتماعية. ويؤكد تشانغ أن ما يهمه ليس إصدار الأحكام، بل كشف التعقيد الإنساني لهذه الخيارات القاسية، التي غالبًا ما تُتخذ في ظروف لا تترك مجالًا حقيقيًا للاختيار.
إلى جانب ذلك، يتناول “أصوات الليل” مصير النساء اللواتي تُركن خلف أزواجهن، بعدما غادر الرجال القرى بحثًا عن العمل في المدن. في هذه المساحة، تصبح الأرض عنصرًا محوريًا، فهي مصدر العيش الوحيد، وموضع السيطرة في الوقت نفسه. يعمل الجميع في الحقول، تحت سلطة الجد، الذي يمثل امتدادًا حيًا للتقاليد، ومرجعية لا تقبل النقاش. ويشير تشانغ إلى أن هذه الشخصية لا تُقدَّم بوصفها شرًا مطلقًا، بل كنتاج لمنظومة اجتماعية تعيد إنتاج نفسها عبر الأجيال.
أحد أكثر المشاهد رمزية في الفيلم هو ذلك الذي تختبئ فيه فتاتان تحت التراب، في صورة تشبه العودة إلى رحم الأم. يصف المخرج هذا المشهد باعتباره تعبيرًا بصريًا عن الرغبة في الأمان، والحنين إلى حب مفقود، ومحاولة بدائية للانسحاب من عالم قاسٍ. بالنسبة له، لا يحمل المشهد معنى واحدًا مغلقًا، بل يفتح الباب أمام قراءات متعددة، تتراوح بين الحلم، والذاكرة، واللاوعي الجمعي.
على المستوى البصري، يحضر تمثال قديم يعود إلى حقبة تاريخية بعيدة، واقفًا وسط حقول القمح، بوصفه شاهدًا صامتًا على تغير الأجيال. يرى تشانغ أن هذا التمثال يرمز إلى استمرارية التقاليد، التي تظل قائمة مهما تبدلت الوجوه والظروف. فالأمهات قد يرحلن، والأطفال يكبرون، لكن البنية الاجتماعية التي تحكم حياتهم تظل راسخة. وقد جاء إدماج هذا العنصر البصري في الفيلم نتيجة تعاون وثيق مع مدير التصوير ريغان تشانغ، الذي سعى إلى التقاط علاقة المكان بالذاكرة، لا مجرد جمالياته الطبيعية.
ويشير المخرج إلى أن العمل مع فريقه لم يكن تجربة تقليدية، إذ شارك في صناعة الفيلم عدد من زملائه السابقين من حراس الأمن. غير أن أدوارهم هذه المرة كانت خلف الكاميرا، في مجالات الإنتاج والدعم والتنظيم.
بالنسبة له، لا تكمن أهمية هذه المشاركة في بعدها الرمزي فقط، بل في أن هؤلاء الأشخاص يشتركون معه في خلفية اجتماعية واحدة، وفي فهم عميق لمعنى العيش على الهامش، وهو ما ينعكس على حساسية الفيلم ونبرته الهادئة.
في ختام حديثه، يؤكد تشانغ تشونغتشن أن “أصوات الليل” لا يسعى إلى تقديم خطاب سياسي مباشر، ولا إلى إثارة التعاطف السهل، بل إلى خلق مساحة للتأمل في حيوات غالبًا ما تُهمَل. ويضيف أن مشروعه السينمائي القادم سيواصل الاشتغال على فكرة التنقّل والهجرة الداخلية، من القرية إلى المصنع، ومن مصنع إلى آخر، بوصفها تجربة وجودية لجيل كامل. بالنسبة له، تظل السينما فعل إصغاء طويل، ومحاولة صادقة لالتقاط الأصوات الخافتة التي تعيش في العتمة، وتنتظر من يراها.




