في مقهى صغير في نيويورك، تطلب قهوتك سريعة، تدفع بالبطاقة، فيدور الجهاز نحوك مثل ورقة امتحان مفاجئة:
18% – 20% – 25%.
زر صغير في الأسفل مكتوب عليه “لا إكرامية” أو “مبلغ آخر”، يكاد يعتذر عن وجوده. العامل أمامك ينظر، والناس خلفك تنتظر، وأنت زائر لا تعيش في الولايات المتحدة، تحاول أن تفهم: هل أرفض الدفع الإضافي فأكون “بخيلاً”، أم أستسلم لنظام لم أشارك في صنعه؟
هذه هي المسرحية اليومية لثقافة الإكراميات في أمريكا: خليط من الكرم، والذنب، والضغط الاجتماعي، مغطاة بابتسامة “خدمة لطيفة”.
في الولايات المتحدة، أصبح دفع 15–20% في المطاعم الكاملة الخدمة هو الحد الأدنى المقبول، بينما تُقدَّم نسب 20-25% أكثر فأكثر كأنها الطبيعي الجديد، خصوصاً في المدن الكبرى. في المقابل، في أغلب دول أوروبا تُدمج الخدمة في أسعار القائمة، ويُترك للزبون أن يضيف شيئاً بسيطاً عند الرضا عن الخدمة، غالباً 5-10% أو مجرد تقريب الفاتورة. في فرنسا مثلاً تُضاف رسوم الخدمة قانونياً في الأسعار، ويتقاضى العاملون رواتب مع إجازات وحماية اجتماعية؛ الإكرامية هناك لفتة صغيرة، لا شرطاً لدفع الإيجار. في اليابان، الفكرة نفسها تكاد تكون مهينة: الضيافة جزء من الكرامة والمهنة، وترك مال إضافي قد يُفهم على أنه شفقة أو إساءة، وقد يركض الموظف خلفك ليعيد النقود.
من هذه الزاوية، تبدو أجهزة الدفع في أمريكا وهي تعرض عليك 25% على كوب قهوة، أقرب إلى ضريبة خاصة من كونها “امتناناً.”
لكن المشكلة الأعمق في ثقافة الإكراميات الأمريكية ليست أنها تزعج السائح. المشكلة أنها قائمة على تاريخ طويل من الاستغلال، وما زالت اليوم آلية ذكية لنقل جزء من تكلفة الأجور من كاهل أصحاب الأعمال إلى ضمير الزبون.
من بقايا العبودية إلى 2.13 دولار في الساعة
بعد الحرب الأهلية الأمريكية، بدأت المطاعم والفنادق وشركات السكك الحديدية توظيف ذوي البشرة السمراء المحرَّرين حديثاً من العبودية، لكن كثيراً منها رفض ببساطة دفع أجر حقيقي، واعتبر أن هذه الفئة يجب أن تعيش من الإكراميات التي يدفعها الزبائن البيض. ما بدأ في أوروبا كبادرة تقدير صغيرة، تحوّل في أمريكا إلى بديل عن الأجر.
مع الوقت، تحوّل ذلك إلى نظام قانوني. في الثلاثينيات، حين أقرّ الكونغرس أول قانون للأجر الأدنى الفدرالي، جرى استثناء العاملين الذين يعتمدون على الإكراميات. اليوم، وبعد عقود، ما زال الأجر الأدنى الخاص بالعاملين المعتمدين على الإكرامية عند المستوى نفسه تقريباً، 2.13 دولار في الساعة على المستوى الفدرالي، منذ عام 1991 حتى اليوم، بينما الأجر الأدنى الفدرالي العام هو 7.25 دولار في الساعة.
القانون يفترض أن صاحب العمل يكمل الفرق إذا لم تصل الإكراميات بالموظف إلى الأجر الأدنى العام، لكن الواقع شيء آخر: تقارير منظمات حقوقية ومراكز أبحاث توثق منذ سنوات حجم كبير من “سرقة الأجور”، وعدم الالتزام بالتكميل، وفوضى في حساب الساعات والعمل الإداري الذي لا يُدفَع عنه أجر كامل.
بحسب بيانات منظمات مثل معهد سياسات المرأة والمركز الوطني لقانون المرأة، تبين أن الأجر الأدنى المنخفض للعاملين المعتمدين على الإكرامية يضر بشكل خاص بالنساء وبذوات البشرة الملوّنة؛ النساء العاملات في ولايات تطبق سياسة “أجر واحد عادل للجميع” تقلّ لديهن معدلات الفقر بنحو 28% مقارنة بنظيراتهن في ولايات تبقي على أجر 2.13 دولار، وينخفض المعدل أكثر للنساء الملونات.
بكلمات أخرى: جزء من المجتمع الأمريكي يأكل ويشرب في مطاعم رخيصة، لأن الفرق بين السعر الحقيقي وسعر القائمة يُدفَع من جيب العامل، لا من جيب صاحب العمل.

حين يعتمد الإيجار على مزاج الزبون
الاعتماد على مزاج الآخرين لدفع إيجارك لا يخلق فقط تقلباً في الدخل، بل يخلق علاقة قوة غير متوازنة.
دراسات عديدة وثّقت كيف يجتمع عنصران في المطاعم الأمريكية ليشكلا أرضاً خصبة للتحرش الجنسي:
1- شعار “الخدمة بابتسامة دائماً”
2- الاعتماد على الإكرامية كجزء أساسي من الدخل.
تقارير من حملة One Fair Wage ومنظمات مثل Futures Without Violence تشير إلى أن قطاع المطاعم يسجل أعلى معدلات التحرش، وأن النساء – خصوصاً الملونات – يدفعن ثمن هذا النظام، إذا اعترضت على سلوك زبون متحرش، تخاطر بخسارة الإكرامية أو الشفت القادم.
دراسة أخرى تغطي الولايات التي ألغت الأجر الأدنى المنخفض وتعطي العاملين المعتمدين على الإكرامية الأجر الكامل من صاحب العمل، أظهرت أن معدلات التحرش الجنسي لدى العاملات هناك أقل إلى النصف تقريباً مقارنة بالولايات التي ما زالت عند مستوى 2.13 دولار، لأن العاملة في الحالة الأولى لا تضطر لتحمّل السلوك غير اللائق من أجل أن تضمن ما يكفي من الإكراميات.
إلى جانب ذلك، أظهرت أبحاث أخرى أن العاملين من ذوي البشرة السوداء أو البنية يحصلون في المتوسط على إكراميات أقل من نظرائهم البيض لقاء الخدمة نفسها، وأن النساء أكثر عرضة لأن يُطلب منهن ارتداء ملابس أكثر جذباً حين يعتمد دخلهن على الإكراميات.
الإكرامية هنا ليست مجرد مبلغ إضافي، بل مفصل تدور حوله طبقية كاملة داخل مكان العمل.
تضخم الإكراميات والضغط النفسي على الزبون
ما يثير المفارقة أن أغلب الأمريكيين أنفسهم لم يعودوا مرتاحين لما وصلت إليه ثقافة الإكراميات. دراسة مركز بيو للأبحاث عام 2023 أظهرت أن 72% من البالغين في الولايات المتحدة يعتقدون أن الإكرامية باتت متوقعة في أماكن أكثر مما كانت عليه قبل خمس سنوات، وهو ما أطلق عليه مصطلح Tipflation أو تضخم الإكراميات.
في 2025، وجدت دراسة من Bankrate أن 63% من الأمريكيين يحملون على الأقل نظرة سلبية واحدة تجاه الإكراميات؛ 41% يرون أن على الشركات أن تدفع رواتب أفضل بدلاً من الاعتماد المفرط على الإكراميات، و41% يقولون إن “ثقافة الإكراميات خرجت عن السيطرة”، و38% مندهشون من شاشات الدفع التي تضع نسباً جاهزة عالية للإكرامية.
دراسات أخرى تتحدث عن “إرهاق الإكراميات”: 65% من المستهلكين يقولون إنهم سئموا من توقّع الإكرامية في كل مكان، و66% يشعرون بالضغط حين تظهر شاشة الدفع وتقترح عليهم نسباً عالية بينما الموظف يراقب.

هذه الشاشات ليست بريئة. شركات أنظمة نقاط البيع POS تضبط الإعدادات الافتراضية لتعرض نسباً عالية: 18%، 20%، 25% حتى في مقهى للطلبات السريعة أو كشك طعام متنقل. قلة فقط من الزبائن تنزل إلى خيار “مبلغ آخر” لتكتب نسبة أقل. بالنسبة للعامل، يمكن أن تكون هذه الأزرار الفارق بين نهاية شهر محتملة أو كارثية. بالنسبة للزبون المحلي، هي ضريبة نفسية متزايدة. أما بالنسبة للسائح القادم من باريس أو طوكيو أو دبي، فهي صدمة ثقافية واضحة: لماذا عليّ أن أموّل بنفسي جزءاً من الأجور الأساسية داخل نظام اقتصادي لا أنتمي إليه؟
نظام غير مصمَّم للغرباء
الأمريكي الذي نشأ داخل هذا النظام يعرف القواعد غير المكتوبة: 20% في المطاعم ذات الخدمة الكاملة، 1-2 دولار على كل مشروب في البار، مبلغ محدود في الطلبات الخارجية، شيء ما لسائق التوصيل، لسائق أوبر، لحلّاق الشعر، للعمال في الفندق… إلخ. كثيرون منهم منزعجون من تضخم الإكراميات، لكنهم يفهمون أن رفض الإكرامية لا يضرب صاحب المطعم، بل يضرب الشخص الأقل أجراً في المكان.
الزائر يرى الصورة بشكل مختلف. يرى فاتورة مطعم تضيف ضريبة مبيعات، وربما رسوم خدمة مبهمة لا تُغني عن الإكرامية، ثم شاشة تطلب منه 20-25% فوق ذلك. في واشنطن العاصمة مثلاً، حين صوّت السكان على إنهاء الأجر الأدنى المنخفض للعاملين المعتمدين على الإكرامية، بدأت مطاعم عديدة تضيف رسوم خدمة بين 8-20%، وغالباً ما تبقي على خانة الإكرامية أيضاً، ما يربك الزبائن ويثير تساؤلات حول الشفافية.
إذا كنت تعيش خارج أمريكا، أنت معتاد أن تدفع السعر المكتوب على القائمة تقريباً. في الولايات المتحدة، السعر الحقيقي يظهر فقط في أسفل الفاتورة، بعد سلسلة اختبارات أخلاقية غير معلنة. كثير من الزوار يشعرون بأنهم يتعرضون لنوع من “الابتزاز الناعم” من ثقافة تقول لهم من جهة إن هذه أغنى دولة في العالم، ومن جهة أخرى إن الشخص الذي أعطاك القهوة يتقاضى 2.13 دولاراً في الساعة ما لم تكمل أنت الفارق.
السياسة تدخل على الخط
الحل البديهي يبدو بسيطاً على الورق: إلزام أصحاب الأعمال بدفع أجر كريم ثابت لجميع العاملين، وترك الإكرامية – كما هي في معظم دول العالم – لفتة تقدير اختيارية مقابل خدمة مميزة، لا ركيزة أساسية للدخل.
فعلياً، سبع ولايات أمريكية – مثل كاليفورنيا ومينيسوتا – تطبق هذا النهج بالفعل، جميع العاملين يتقاضون الأجر الأدنى للولاية من صاحب العمل، ثم تأتي الإكرامية فوقه. في واشنطن العاصمة، صوّت السكان في مبادرة “Initiative 82” على إلغاء الأجر الأدنى المنخفض تدريجياً بحلول 2027، رغم مقاومة شديدة من لوبي المطاعم. حملات مثل “One Fair Wage” تحاول تعميم هذا النموذج على المستوى الوطني، وتربطه بتقليل الفقر والتحرش في القطاع.
لكن في المستوى الفدرالي، المسار مختلف. في السنوات الأخيرة طُرحت مبادرات سياسية تحت شعار “No Tax on Tips” لإعفاء الإكراميات من ضريبة الدخل، وتقديم ذلك كهدية للعاملين، من دون المساس بجذر المشكلة: 2.13 دولار في الساعة. تقارير صحفية وتحليلات اقتصادية حذّرت من أن هذه السياسات قد تفيد من يحققون إكراميات كبيرة بالفعل، ولا تقدّم شيئاً تقريباً لمن يبقون في أدنى السلم، كما أنها ترسّخ اعتماد النظام على الإكرامية بدل الأجر الحقيقي، وتُرضي لوبيات المطاعم أكثر مما تحمي العمال.
المفارقة أن بعض كبار اللاعبين في قطاع الوجبات السريعة – مثل ماكدونالدز – بدأوا ينتقدون النظام علناً، معتبرين أن المطاعم التي تدفع 2.13 دولار وتترك الباقي للإكرامية تلعب على “أرض غير متكافئة” مع سلاسل تدفع أجوراً كاملة ولا تعتمد على البقشيش. حين يبدأ عملاق وجبات سريعة في الظهور كأنه يدافع عن حقوق العمال مقارنة ببعض المطاعم المستقلة، فهذا يعني أن الخلل في النظام لم يعد يمكن إخفاؤه خلف قصة الكرم والاختيار الشخصي.
تجارب إلغاء الإكرامية… وحدودها
في العقد الماضي، حاولت مجموعة من المطاعم في نيويورك وسان فرانسيسكو وغيرها كسر النموذج بالكامل، لا إكراميات، أسعار أعلى قليلاً، وأجور ثابتة وعادلة للجميع، من الطهاة إلى النادل. بعض هذه التجارب نجح لفترة وخلق بيئة عمل أكثر عدلاً وتعاوناً؛ بعضها الآخر اضطر للتراجع بسبب مقاومة الزبائن لفواتير أعلى، وصعوبة الاحتفاظ بأفضل النُّدُل الذين يستطيعون كسب دخل أعلى في مطاعم تعتمد على الإكرامية.
أبحاث أكاديمية ذهبت أبعد من ذلك، وقدمت نماذج رياضية تشير إلى أنه بعد نقطة معيّنة، وحين ترتفع نسبة الإكرامية “الطبيعية” في مدينة ما، يصبح منطقياً اقتصادياً للمطاعم أن تتخلى عن الإكراميات كلياً وتدمج تكلفة الأجور في الأسعار. المشكلة أن لا أحد يريد أن يكون أول من يقفز من هذا المنحدر. في قطاع بهوامش ربح ضيقة، المطعم الذي يقرّر “دفع الأجور كما ينبغي” بينما منافسوه يستمرون في استخدام ثغرة 2.13 دولار، سيبدو ببساطة أغلى.

لهذا، انتظار ضمير السوق وحده يبدو وهماً. ما دام القانون يسمح بنقل جزء كبير من الأجور إلى الزبون، ستظل هناك ميزة تنافسية لمن يستخدم هذه الثغرة على حساب من لا يستخدمها.
ماذا يرى الغريب بوضوح ولا يراه المواطنون؟
من داخل الولايات المتحدة، كثيراً ما تُدافَع ثقافة الإكراميات بقصة مألوفة، الإكرامية مكافأة على الخدمة الجيدة، تشجع على الاجتهاد، وتمنح الزبون قوة اختيار. في جزء من هذه القصة شيء صحيح؛ كثير من العاملين بنوا علاقات جميلة مع زبائن دائمين، وإكرامياتهم السخية أنقذت شهوراً صعبة.
لكن حين تقول الاستطلاعات إن أغلب الأمريكيين اليوم يشعرون أن الإكراميات خرجت عن السيطرة، وحين تظهر الدراسات أن الاعتماد على الإكرامية يضاعف الفقر والتحرش في قطاع بعينه، يصبح واضحاً أن القضية أكبر من الكرم أو البخل.
الزائر الذي يأتي من خارج هذا السياق، ولا يحمل معه هذه القصص الداخلية، يلاحظ أموراً مختلفة:
• يرى دولة غنية تستخدم حيلة قديمة لإبقاء الأسعار الظاهرية منخفضة، بينما التكلفة الحقيقية للخدمة تُدفَع في لحظة قصيرة ومحرجة عند أسفل الفاتورة.
• يرى قوة عاملة في الضيافة يغلب عليها النساء والمهاجرون وذوو البشرة الملوّنة، مضطرة للابتسام أكثر، وتحمل تعليقات غير لائقة، لأن رفض الزبون يعني خسارة جزء من الراتب لا مجرد بقشيش.
• يرى مشرّعين مستعدين لتعديل طريقة فرض الضرائب على الإكراميات، لكن أقل استعداداً بكثير لإقرار قاعدة بسيطة: لا أحد في أغنى دولة في العالم يجب أن يتقاضى 2.13 دولاراً في الساعة.
بالنسبة للسائح، ثقافة الإكراميات الأمريكية مزعجة ومرهقة. بالنسبة لمن يعيش داخلها، هي شيء أعمق بكثير، جهاز صامت يحدد من يملك كرامته، ومن عليه أن يشتريها كل ليلة، ابتسامة بعد أخرى.
سعر الخدمة… ومن يدفعه فعلاً؟
المسألة ليست معقدة فلسفياً كما تبدو عملياً. للخدمة سعر حقيقي. يمكن للمجتمع أن يختار، إمّا أن يكتبه بوضوح في القائمة، وأن يلزم صاحب العمل بدفع أجر كريم للعامل، أو أن يخفيه في زوايا شاشة دفع تدوَر إليك بسرعة، وأنت محرج، والعامل أمامك، والناس خلفك.
العادة الأمريكية حتى الآن تميل إلى الخيار الثاني، إلقاء العبء على الزبون الذي يجد نفسه في مواجهة أزرار 25% على كوب قهوة، وعلى العامل الذي يضطر ليضحك على نكتة سيئة أخرى، فقط لأن هذه النكتة قد تعني 5% إضافية.
نظام أكثر صدقاً وعدلاً لن يكون ثورياً في عيون الأوروبي أو الياباني؛ سيكون ببساطة ما يعرفه أصلاً، أجر واضح من صاحب العمل، أسعار تعكس الواقع، وإكراميات تعود إلى معناها الأصلي… لفتة شكر صغيرة، لا الفرق بين حياة كريمة وحياة على الهامش.




