في لاس فيغاس، حيث يُباع الأمل والحظ كسلع يومية، اجتمع أكثر من 60 ألف خبير وقائد تقني هذا الأسبوع في مؤتمر “AWS re:Invent 2025”. الظاهر للعيان كان احتفالاً صاخباً بالتكنولوجيا، موسيقى تصدح، أضواء ليزر، وإعلانات متلاحقة عن منتجات جديدة. ولكن، من يقرأ ما بين السطور، ويستمع لما يدور في الغرف المغلقة بعيداً عن صخب المسرح الرئيسي، سيجد القصة مختلفة تماماً.
لم يكن هذا المؤتمر مجرد استعراض للعضلات التقنية من قبل شركة حققت إيرادات سنوية بلغت 132 مليار دولار؛ بل كان محاولة حثيثة وجادة للإجابة على سؤال وجودي يواجه صناعة التكنولوجيا بأكملها اليوم: “لقد أنفق العالم مئات المليارات على الذكاء الاصطناعي في العامين الماضيين، فأين العائد الاقتصادي الحقيقي؟”.
تقارير المؤسسات المالية الكبرى مثل “جولدمان ساكس” و”سيكويا كابيتال” كانت تحذر طوال عام 2024 من “فقاعة الذكاء الاصطناعي”، مشيرة إلى الفجوة الهائلة بين الإنفاق الرأسمالي (CapEx) والعائدات الفعلية. الشركات اشترت “الحلم”، لكنها لم تشهد “الإنتاجية” بعد.
من هنا، جاءت “انعطافة 2025”. الرسالة التي خرجت من لاس فيغاس هي أن عصر الدردشة مع الذكاء الاصطناعي التوليدي (GenAI) قد انتهى، وبدأ عصر “وكلاء الذكاء الاصطناعي” (Agentic AI)؛ برمجيات لا تكتفي بالكلام، بل تنجز العمل نيابة عنك.
الهروب إلى الأمام.. من “الموسوعة” إلى “المراهق“
لفهم النقلة النوعية التي حدثت هذا الأسبوع، يجب أن ندرك الفرق الجوهري بين ما كان لدينا، وبين ما يُباع لنا اليوم.
الجيل السابق من الذكاء الاصطناعي (مثل ChatGPT في بداياته) كان أشبه بـ “موسوعة عبقرية”. تسأله فيجيبك، لكنه سلبي. لا يستطيع أن يفتح بريدك الإلكتروني، أو يكتب كوداً برمجياً ويشغله، أو يصلح عطلاً في الخادم.

ما قدمته AWS عبر الرئيس التنفيذي مات غارمان هو مفهوم “الوكيل” (Agent)؛ برمجية تمتلك “يدين” رقميتين وصلاحية لاتخاذ القرارات.
ولكن، كيف تبيع تكنولوجيا قوية ومستقلة لشركات تخشى المخاطرة؟
لجأ غارمان إلى استعارة ذكية جداً – وربما مقلقة – عندما وصف وكلاء الذكاء الاصطناعي هؤلاء بأنهم “مثل المراهقين”. قال غارمان أمام الحشود: “الأمر يشبه تربية مراهق. عليك أن تبدأ بمنحهم المزيد من الاستقلالية والحرية ليتعلموا التصرف، لكنك تريد أيضاً وضع بعض الضوابط (Guardrails) لضمان عدم ارتكابهم للكوارث”.
هذا التشبيه يكشف عن التوتر الرئيسي في الصناعة حالياً: الرغبة في السرعة مقابل الخوف من الفوضى.
في حديثنا الخاص مع توم سودرستروم (Tom Soderstrom)، الخبير الاستراتيجي في AWS، وضع يده على الجرح الاقتصادي الذي يدفع إلى هذا التسرع. قال لنا بوضوح: “المشكلة الأكبر التي تواجه الذكاء الاصطناعي اليوم هي التوقعات غير الواقعية. المديرون التنفيذيون يسألون: أين العائد على الاستثمار؟ وتوقع توفير المال فوراً هو توقع غير واقعي”.
إذن، الصناعة تدفع بـ “الوكلاء” لأنهم يعدون بإنتاجية حقيقية (كتابة أكواد، معالجة بيانات، إدارة سلاسل إمداد) يمكنها تبرير الفواتير الضخمة، حتى لو كانت التكنولوجيا لا تزال في مرحلة “المراهقة”.
“ديون التحقق”.. الفاتورة الخفية للسرعة
إذا كان “الوكيل” هو الحل السحري للإنتاجية، فما هو الثمن؟

الإجابة جاءت في اليوم الأخير للمؤتمر، وعلى لسان فيرنر فوجلز (Werner Vogels)، المدير التقني لشركة أمازون (CTO)، الذي يُعتبر “الضمير الحي” للمهندسين.
طرح فوجلز مفهوماً جديداً وعميقاً جداً أطلق عليه اسم “ديون التحقق” (Verification Debt). ولتبسيط هذا المفهوم للقارئ غير التقني: تخيل أن لديك موظفاً خارقاً (الذكاء الاصطناعي) يكتب 1000 صفحة من التقارير في دقيقة واحدة. أنت، كمدير بشري، لا تملك الوقت لقراءة هذه التقارير، فتقوم بالتوقيع عليها واعتمادها فوراً. هنا، أنت لم تنجز العمل، بل راكمت “ديناً”. هذا الدين هو احتمال وجود أخطاء كارثية في تلك الصفحات ستنفجر في وجهك مستقبلاً.
قال فوجلز محذراً: “الذكاء الاصطناعي يمكنه توليد الأكواد أسرع مما يمكنك فهمها. الكود يصل فوراً، لكن الفهم لا. هذه الفجوة تسمح للبرمجيات بالوصول إلى مرحلة الإنتاج قبل أن يتحقق أي شخص مما تفعله حقاً”.
هذا التحذير يتقاطع بشكل مخيف مع ما قاله لنا مارك رايلاند (Mark Ryland)، مدير أمن المعلومات في AWS، في جلسة مغلقة. أشار رايلاند إلى أن التهديد الأمني الجديد ليس “الاختراق” بالمعنى التقليدي، بل “خداع الثقة”.
أوضح رايلاند قائلاً: “المهاجمون اليوم يبنون الثقة مع المطورين، يتصرفون بشكل طبيعي لفترة طويلة، ثم يمررون كوداً خبيثاً”.
السؤال الذي يطرحه المحللون الآن: إذا كان من يكتب الكود هو “وكيل ذكاء اصطناعي” (مراهق)، ومن يراجع الكود هو إنسان مرهق ومثقل بـ “ديون التحقق”، ألا يخلق هذا بيئة مثالية للكوارث الأمنية؟
صراع الواقع.. بين “استوديوهات هوليوود” و”أرضية المصنع“
من السهل الحديث عن “الوكلاء” في الشركات الرقمية، ولكن ماذا عن العالم المادي؟ العالم الذي توجد فيه مصانع، ومستشفيات، وبث تلفزيوني مباشر؟
في مقابلتنا الحصرية مع ستيف لون (Steph Lone)، المسؤولة عن قطاع الإعلام والرياضة، كشفت لنا عن استخدامات مذهلة ولكنها خطرة. قالت: “في سباقات الفورمولا 1، قاموا ببناء وكيل لتحليل السبب الجذري للمشاكل وإصلاحها أثناء البث المباشر للسباق”.
هذا يعني أننا تجاوزنا مرحلة “التجربة”. هناك “روبوت” يتدخل في البنية التحتية لحدث يشاهده الملايين حول العالم.
ولكن، عند الحديث مع ستيف بلاكويل (Steve Blackwell)، القائد التقني لقطاع التصنيع، تتغير النبرة تماماً لتصبح أكثر واقعية وقسوة. المصانع لا تُدار بـ “المراهقين”.
قال بلاكويل بوضوح صارم: “في المصانع، التحدي الأكبر هو إثبات العائد المالي. نذهب إلى المصنع، وإذا لم نثبت العائد خلال 6 أسابيع، يتوقف المشروع”.

وأضاف نقطة فيزيائية غاية في الأهمية تنسف فكرة “السحابة لكل شيء”: “لا يمكن للمصانع أن تعتمد على السحابة بنسبة 100%. هناك فيزياء تحكمنا. الآلات تحتاج إلى سرعة استجابة لا يمتلكها الإنترنت. سيظل هناك دائماً حاجة إلى أجهزة كمبيوتر داخل المصنع (Edge Computing)”.
هذا التباين بين “ستيف لون” (التي تريد سرعة وابتكاراً في الإعلام) و”ستيف بلاكويل” (الذي يريد دقة وصرامة في المصانع) يوضح أن “الوكلاء الأذكياء” ليسوا حلاً واحداً يناسب الجميع. ما يصلح لفيلم سينمائي قد يسبب كارثة في مصفاة نفط.
المعضلة الأخلاقية والقانونية.. من يدفع الثمن؟
أثناء تجوالنا في أروقة المؤتمر، كان السؤال الأكثر إلحاحاً الذي يتهامس به القادة التنفيذيون: “إذا أخطأ الوكيل، من يذهب إلى المحكمة؟”.
شركات التكنولوجيا تبيع هذه الأدوات على أنها “زملاء عمل” (Coworkers)، لكن عندما يتعلق الأمر بالمسؤولية القانونية، يتغير التعريف.
طرحنا هذا السؤال المباشر على د. رولاند إيلينغ (Dr. Rowland Illing)، المدير الطبي لـ AWS: في حال قام وكيل ذكي بتشخيص خاطئ لمريض، من يتحمل المسؤولية؟
إجابته كانت حاسمة وتوضح حدود اللعبة: “نحن نعمل وفق نموذج المسؤولية المشتركة. نحن نضمن أمن السحابة، لكن المستخدم النهائي هو المسؤول عن أمن وموثوقية التطبيق الذي يبنيه”.
بمعنى آخر: AWS تبيعك “السيارة ذاتية القيادة”، وتوفر لك “الطرق المعبدة”، لكن إذا وقع حادث، فأنت السائق المسؤول أمام القانون، وأنت من يدفع التعويضات.
هذه الفجوة في المسؤولية هي العائق الأكبر أمام تبني هذه التكنولوجيا في القطاعات الحساسة. لا أحد يريد أن يسلم مفاتيح مستشفى إلى “مراهق” لا يمكن مقاضاته.
المستقبل.. اقتصاد “الآلة تدفع للآلة“
رغم كل هذه التحديات، إلى أين نتجه؟
توم سودرستروم، الذي يمكن وصفه بـ “مستشرف المستقبل” في AWS، رسم لنا في حديثه صورة لما بعد عام 2030، وهي صورة تتجاوز مجرد “أتمتة المهام”.
تحدث سودرستروم عن اقتصاد جديد بالكامل، حيث لا يتعامل البشر مع الوكلاء الأذكياء فحسب، بل يتعامل الوكلاء مع بعضهم البعض مالياً. قال: “في المستقبل، عندما يحتاج وكيل إلى خدمة من وكيل آخر، سيدفع له مقابل ذلك. نحن نتحدث عن مدفوعات دقيقة (Micropayments) بأجزاء من السنت، تتم عبر العملات الرقمية المستقرة (Stablecoins)”.
هذا يعني أننا نتجه نحو “اقتصاد آلي” موازٍ للاقتصاد البشري. ولكن، كما أقر سودرستروم نفسه، العقبة ليست التكنولوجيا، بل الثقة. كيف نثق في شبكة من الوكلاء الذين يبيعون ويشترون الخدمات فيما بينهم بسرعة البرق؟

هل نحن مستعدون لعصر “المدققين”؟
خلاصة ما شهدناه في لاس فيغاس هذا العام هو أننا أمام “نضج قسري” للتكنولوجيا. الضغوط الاقتصادية تدفع الشركات إلى تبني “الوكلاء الأذكياء” قبل أن تكتمل منظومة الثقة والأمان الخاصة بها.
بالنسبة إلى الموظف العادي، وإلى الشركات في منطقتنا العربية، الرسالة واضحة: الذكاء الاصطناعي لن يستبدل البشر بـ “روبوتات” بالمعنى التقليدي. بل سيغير طبيعة الوظيفة البشرية نفسها.
في السابق، كان الموظف يُقيّم بناءً على قدرته على الإنتاج (كتابة، برمجة، تصميم). في عصر الوكلاء (Agentic Era)، سيُقيّم الموظف بناءً على قدرته على “التدقيق” والحكم، وإدارة المخاطر”.
نحن لا نفقد وظائفنا لصالح الآلات، بل نتحول جميعاً إلى “مدراء” لهذه الآلات. وكما تعلمنا من مات غارمان: إدارة “المراهقين” قد تكون أصعب بكثير من القيام بالعمل بنفسك.
الشركات التي ستنجو في عام 2026 ليست تلك التي تشتري أسرع تكنولوجيا، بل تلك التي تملك أذكى البشر القادرين على اكتشاف أخطاء تلك التكنولوجيا قبل فوات الأوان.




