من احتراق الأطباء إلى ملل الجماهير… هل ينجح الذكاء الاصطناعي في إنقاذ إنسانية الوظائف التي نخشى فقدانها؟

الذكاء الاصطناعي لا يهدف لاستبدال الإنسان بل لإنقاذه من الغرق في الروتين والبيانات؛ رؤية خبراء AWS تؤكد أن المستقبل للتكنولوجيا “غير المرئية” التي تعيد الإنسان للواجهة

مجد البهو
مجد البهو
الذكاء الاصطناعي

ملخص المقال

إنتاج AI

يكشف المقال عن تحول الأفراد إلى روبوتات بسبب الروتين والبيانات الضخمة، ويستعرض استراتيجية لإنقاذ قطاعي الصحة والإعلام عبر جعل التكنولوجيا "غير مرئية" لإعادة الإنسان إلى الواجهة، وتقليل الأعباء البيروقراطية والإدارية.

النقاط الأساسية

  • الذكاء الاصطناعي يهدف لتقليل المهام البيروقراطية في الصحة والإعلام.
  • الأطباء يقضون وقتاً أطول في السجلات الإلكترونية بدلاً من المرضى.
  • الجيل Z يفضل ملخصات المباريات، مما يستدعي تخصيص المحتوى.


لطالما خشينا أن تحولنا التكنولوجيا إلى روبوتات، لكن البيانات تكشف مفارقة صادمة: نحن بالفعل نتحول إلى روبوتات بسبب الروتين والبيانات الضخمة. في حواراتنا الصريحة مع قادة قطاعي الصحة والإعلام في AWS، تكشفت الاستراتيجية لإنقاذ هذين القطاعين: التكنولوجيا يجب أن تصبح “غير مرئية” ليعود الإنسان إلى الواجهة.

عندما يُطرح موضوع الذكاء الاصطناعي في المجالس العامة، غالباً ما يدور النقاش حول محور واحد: “الاستبدال”. متى سيحل الروبوت محل الطبيب؟ وهل سيكتب الكمبيوتر الأخبار بدلاً من الصحفي؟ ولكن، عند الغوص في الأرقام الصادمة القادمة من المستشفيات وغرف الأخبار، نكتشف أن الخطر الحقيقي الذي يواجهنا ليس “الذكاء الخارق” للآلات، بل الانهيار البشري تحت وطأة البيانات والبيروقراطية.

في كواليس مؤتمر “AWS re:Invent”، جمعنا رؤية د. رولاند إيلينغ، كبير المسؤولين الطبيين ومدير الرعاية الصحية العالمية والمنظمات غير الربحية في أمازون ويب سيرفسز وستيفاني لون، القائدة العالمية لحلول الهندسة المعمارية للإعلام والترفيه والألعاب والرياضة، وقمنا بمقاطعتها مع واقع السوق العالمي، لنرسم صورة لمستقبل يعتمد على إنقاذ البشر من الغرق في التفاصيل، وليس استبدالهم.

الطب.. معركة استعادة الوقت من الشاشة

في حديثنا المطول مع د. رولاند إيلينغ، كان من اللافت أنه لم يركز على دقة الخوارزميات في تشخيص الأمراض النادرة – وهو الجانب البراق للتكنولوجيا – بقدر ما ركز على مشكلة تبدو بسيطة ولكنها قاتلة: “الإرهاق” (Burnout).

كلام إيلينغ ليس مجرد ملاحظة عابرة؛ بل هو انعكاس لأزمة عالمية تهدد بانهيار المنظومات الصحية. وفقاً لتقرير Medscape حول الاحتراق النفسي (أو الوظيفي) والاكتئاب لدى الأطباء لعام 2024، فإن 49% من الأطباء يبلغون عن شعورهم بالاحتراق النفسي، والسبب الأول ليس صعوبة الجراحات أو ضغط اتخاذ القرارات المصيرية، بل “المهام البيروقراطية “(Bureaucratic Tasks).

دراسة نشرتها مجلة دراسة سجلات الطب الباطنيAnnals of Internal Medicine حول الوقت الذي يقضيه الأطباء في السجلات الصحية الإلكترونية والرعاية المباشرة تشير إلى حقيقة مرعبة: الطبيب يقضي ساعتين أمام السجلات الإلكترونية (EHR) مقابل كل ساعة يقضيها وجهاً لوجه مع المريض. لقد تحول الطبيب من معالج إلى مدخل بيانات باهظ التكلفة.

هنا تكمن القيمة الحقيقية لما طرحه إيلينغ حول أدوات مثل “AWS HealthScribe”. الفكرة ليست في أن يقوم الذكاء الاصطناعي بالتشخيص، بل أن يقوم بالاستماع وكتابة التقرير. يقول إيلينغ:”التعاطف، والقدرة على لمس يد المريض، وسماع مخاوفه، هي أشياء لا يمكن استنساخها تقنياً. إذا تمكن الطبيب من قضاء وقت أقل أمام الشاشة ووقت أطول مع المريض، فهذا هو الإنجاز الحقيقي”.



الهدف هنا اقتصادي وإنساني معاً، تقليل الهدر الإداري الذي يكلف القطاع الصحي الأمريكي وحده 320 مليار دولار بحسب ماكينزي، وإعادة التعاطف إلى المعادلة العلاجية.

تحدي البيانات الجينية، ما وراء القدرة البشرية بعيداً عن الروتين، أشار إيلينغ إلى نقطة أخرى تجعل الذكاء الاصطناعي ضرورة حتمية وليست رفاهية: “طوفان البيانات”. تسلسل جينوم بشري واحد يولد حوالي 100 جيجابايت من البيانات الخام. مع توقع وصول حجم سوق الجينوميات إلى127 مليار دولار بحلول 2028، يصبح من المستحيل بشرياً تحليل هذه البيانات وربطها ببروتوكولات العلاج (الطب الدقيق) دون مساعدة خوارزمية. هنا، التكنولوجيا ليست “منافساً” للطبيب، بل هي “نظارته” التي يرى بها ما لا يُرى بالعين المجردة.

الإعلام.. نهاية عصر “المشاهد الواحد”

على الجانب الآخر من المشهد، تواجه ستيف لون تحدياً وجودياً في قطاع الإعلام والرياضة: الجمهور يهرب، والنموذج الاقتصادي التقليدي يترنح. أرقام ديلويت حول عادات المشاهدة الرياضية تؤكد ما قالته لون في مقابلتها معنا 41% من الجيل Z يفضلون مشاهدة ملخصات المباريات عبر وسائل التواصل الاجتماعي بدلاً من مشاهدة المباراة المباشرة كاملة. انتباه الجمهور تفتت، ولم تعد قصة واحدة تناسب الجميع.

كشفت لنا لون عن الحل الذي تطبقه أمازون ويب سيرفيسز مع الدوري الألماني، وهو حل يوضح كيف يتحول الذكاء الاصطناعي من أداة إنتاج إلى أداة تخصيص (Hyper-personalization). تقول لون: “الأمر يتعلق بتغيير نبرة التعليق والقصة بناءً على من يشاهد. المشاهد التقليدي يريد تحليلاً تكتيكياً، والمشاهد الشاب يريد إيقاعاً سريعاً ولغة مختلفة”.

هذا التوجه تدعمه أرقام ماجنا جلوبال Magna Global التي تشير إلى أن الإنفاق على الإعلانات المخصصة سينمو بنسبة 8% في 2025، بينما يتراجع التلفزيون التقليدي. المؤسسات الإعلامية تواجه ضغطاً هائلاً: “أنتج محتوى أكثر، بتكلفة أقل، ومنصات متعددة”.

استخدام وكلاء الذكاء الاصطناعي للقص التلقائي (Clipping) والترجمة الفورية – كما ذكرت لون – هو السبيل الوحيد لمواكبة الطلب الهائل على المحتوى القصير، والذي يشكل الآن 57% من وقت مشاهدة الفيديو عالمياً. البشر (المحررون) لا يمكنهم فيزيائياً إنتاج 100 نسخة مختلفة من نفس المباراة في الوقت الفعلي؛ الآلة فقط هي من تستطيع ذلك.

الأتمتة كأداة تفريغ لا إلغاء

القاسم المشترك بين حديث إيلينغ ولون، بعيداً عن لغة التسويق، هو أن الذكاء الاصطناعي يُستخدم الآن لإزالة الضجيج. في الطب، الضجيج هو الأعمال الورقية التي تقتل 53% من الأطباء نفسياً. في الإعلام، الضجيج هو العمليات الروتينية التي تمنع الوصول للجيل الجديد.
إذا نجحت هذه الرؤية، وهو رهان لا يزال مفتوحاً، فإن وظائف المستقبل لن تختفي، بل ستصبح أكثر قيمة. وكما تظهر بيانات المنتدى الاقتصادي العالمي، فإن 75% من الشركات تتوقع تبني هذه التقنيات، لكن النقص الحقيقي والأخطر سيكون في المهارات البشرية القادرة على توجيه هذه الآلات، واتخاذ القرارات الأخلاقية التي تعجز عنها الخوارزميات.