يتقدّم مفهوم السيادة الرقمية اليوم إلى واجهة النقاش العالمي، مع تصاعد الحاجة إلى امتلاك بنى تكنولوجية محلية قادرة على المنافسة. غير أنّ هذا الطموح لا ينفصل عن تحديات معقّدة، حيث تبدأ من الفجوة الضخمة في القدرات البحثية والبرمجية، ولا تنتهي عند الاحتكار العالمي لصناعة الشرائح والمعالجات التي تشكّل العمود الفقري لأي نموذج متقدّم للذكاء الاصطناعي. وبين رغبة الدول في ضمان استقلالها الرقمي، وواقع الاعتماد العميق على نماذج وشركات أميركية.
و في هذه الفوضى العالمية على تصدر المشهد في الذكاء الاصطناعي، تطفو على السطح العديد من التساؤلات حول مستقبل هذه التقنية.
في حديث حصري وخاص لمنصة “لنا” مع الرئيس التنفيذي للابتكار في معهد الابتكار التكنولوجي الدكتور شوقي قاسمي حيث قال : “في حالتنا نحن، نطوّر قدرات تمكّن البنية التقنية من دعم نماذج سيادية وغير سيادية، مفتوحة المصدر أو مغلقة، وفق ما تقتضيه طبيعة المشكلة المراد حلها. في النهاية، كل شيء يعتمد على نوع المشكلة التي تريد معالجتها.”.

وعند سؤال قاسمي حول مستقبل النماذج المغلقة والمفتوحة أجاب: “ما زلت أؤمن بأن مجتمعاً قوياً من مطوري المصدر المفتوح سيظهر ليقدّم بدائل حقيقية للتطبيقات المبنية على النماذج المغلقة. حين نتحدث عن “Chatgpt” مثلاً، فنحن نتحدث عن تطبيق مبني على نموذج “gpt” ، ولكل نموذج خصائصه التقنية، لكننا في كثير من الأحيان نخلط بين مقارنة التطبيقات ومقارنة التقنيات الجوهرية. «فالكون» هو تقنية جوهرية، ومن الآن فصاعداً، أي طرف يريد تطوير تطبيق سيعرف أي تقنية تناسب هذا التطبيق.”.
وأكمل، “اليوم، الذكاء الاصطناعي ما زال في طور النضوج، سواء من حيث المواهب أو البنية التحتية أو التطبيقات أو تبني التكنولوجيا. نحن فقط في بداية الموجة. قد تبدو موجات التطور التكنولوجي متشابهة، لكن هذه الموجة مختلفة. إذا عدنا إلى تطور المعالجات قبل 15 أو 20 عاماً، نرى ذروة محددة، ثم استقراراً. هذه المرة، الحديث لا يدور عن «تحول في الأعمال» أو عن طريقة جديدة لقراءة البريد الإلكتروني فقط، بل عن “تحول في العالم كله”. لذلك، الذروة لم تأت بعد، وما زلنا في قلب الموجة. وما سيأتي لاحقاً، مثل الحوسبة الكمية وغيرها، سيضيف طبقات جديدة بالكامل إلى المشهد.”.
ذكاء اصطناعي مخصص لـ”ثقافتنا العربية”
في عالمنا العربي نستخدم بشكل يومي برامج الذكاء الاصطناعي في مجالات عديدة، وتساعدنا في اختصار العديد من المهام التي نواجهها في حياتنا العملية، ولكن يظهر الاختلاف الكبير عن سؤال هذه البرمجيات أو التطبيقات عن مسألة تخص الثقافة العربية أو مشكلة اجتماعية “محلية”، لتظهر لنا نتائج مختلفة كلياً عما كنا نتوقعه لنكتشف فقر هذه البرمجيات عن عن الهوية الخاصة بنا أو خلفية حياتنا في الشرق الأوسط.
و في حديث “لنا” بحوار خاص مع العالمة والباحثة الرئيسية “بسمة بوساحة” عن الفرق بين لغة عربية “مجرّد مكتوبة”، ولغة مصمَّمة فعلاً لفهم ثقافتنا عند استخدام البرامج المنتشرة حيث قالت: “الفارق كبير جداً. عندما تقرأ نصاً بالعربية تمت كتابته أو ترجمته اعتماداً على بيانات إنجليزية، تجد الشخصيات بأسماء أجنبية، يعيشون في بوسطن أو باريس، ويأكلون طعاماً غربياً، فتكون الثقافة والنكات كلها غربية”.
أما عندما يكون لديك نموذج مبني من الصفر على بيانات عربية أصيلة، ستجد أسماء مثل محمد، ويأكلون أكلات عربية، ويتبعون عاداتنا وتقاليدنا. هذا هو الفارق. حين يُبنى النموذج على بيانات محلية، يلتقط المعنى والثقافة والدلالات الخفية، لا مجرد الكلمات”.
وأكملت “إذا أخذت نموذجاً مدرَّباً على بيانات إنجليزية ثم ترجمته، فإنك تفقد هذه التفاصيل الدقيقة. لذلك، عندما طورنا نموذج “فالكون” العربي، قلنا إننا لا نريد بيانات مترجمة، بل نحتاج بيانات عربية تعكس الثقافة العربية، والمعرفة، والتقاليد، وحتى الصور النمطية المتداولة لدينا. اخترنا الاعتماد على بيانات محلية بالكامل”.
البيانات العربية “شحيحة”
قالت الدكتورة “بوساحة” حول حجم البيانات العربية المنشورة والمكتوبة أنها شحيحة وقليلة مقارنة مع اللغات الأخرى المنشورة على الانترنت، حيث قالت: “هناك نحو 500 مليون ناطق بالعربية في العالم، لكن عندما تنظر إلى المحتوى الرقمي، من كتب ومواقع، تجد فجوة كبيرة. مقارنة بالإنجليزية أو الإسبانية، حجم البيانات عالية الجودة المتاحة للتدريب صغير جداً نسبة إلى عدد المتحدثين الأصليين”.
وأضافت : “إذا أردت بناء نظام ترجمة أو نموذج لغوي، ستواجه صعوبة في العثور على البيانات المناسبة. معظم البيانات المتاحة محمية الحقوق أو مغلقة، وليست موجودة بحرية على الإنترنت المفتوح. وسائل التواصل الاجتماعي تحتوي بيانات، لكنها فوضوية جداً”.
ستظل هناك انحيازات
قالت الدكنورة “بوساحة” أنه حتى مع البيانات عالية الجودة، ستظل هناك تحيزات؛ تحيزات جندرية، دينية، وغيرها. وهذه مشكلة عالمية في النماذج الإنجليزية والفرنسية والهندية أيضاً”.
وأكملت: “لدينا تقنيات لتصفية البيانات مسبقاً لتقليل هذا السلوك، لكن لا يمكن إلغاؤه تماماً. لا نستطيع ضمان نموذج بلا أي انحياز. لكن فرضيتنا هي: كلما زادت البيانات العربية الأصلية، أصبح النموذج “يفكّر” بالعربية بدلاً من ترجمة الأفكار من الإنجليزية”.
“العُزلة التقنية”
في حوار خاص مع كبير الباحثين “حكيم حسيد” بمعهد الابتكار التكنولوجي، حول التقدم المستقل للجهات المطورة للذكاء الاصطناعي وعن مخاوف “العزلة” التقنية، حيث أجاب : “الاعتماد على نموذج واحد مهيمن، يعني حتى على المستوى الثقافي أن ثقافة واحدة ستطغى على باقي الثقافات، وهذا أمر لا يريده أحد في نهاية المطاف. لا أرى أن هناك خطراً حقيقياً بالعزلة، لأن المعرفة ليست متمركزة في “جزيرة” واحدة، بل موزعة في أماكن عديدة”.

وأكمل “من وجهة نظري، لدينا العديد من “الجزر” المختلفة في الذكاء الاصطناعي، كل واحدة تستكشف مشكلة معينة، ثم تأتي “طبقة التعاون” لاحقاً لربط هذه الجزر معاً، حتى نتمكن من تحقيق أمور أكثر إثارة للاهتمام. فالجميع بدأ يدرك أن التعاون ضروري للغاية لحل التحديات المشتركة”.
وأضاف :”لا أعتقد أن جهة واحدة قادرة على حل جميع التحديات وحدها، لذلك نعم، ستكون هناك جزر، وهذا أمر إيجابي، لأن كل طرف سيركز على مشكلات محددة من زاوية مختلفة، لكن في النهاية يجب أن تتعاون هذه الجزر جميعاً. والجميع، بصراحة، بات يفهم أهمية المصدر المفتوح، وأن التعاون بدأ بالفعل يطفو على السطح لتمكين تبادل الأفكار ودفع هذا المجال إلى الأمام”.
في المختصر المستقبل لن يُحسم بنموذج واحد ولا بثقافة واحدة، بل بتعدّد مصادر التقنية وتعاونها. فالرهان الحقيقي هو على نماذج تعكس قيم المجتمعات ومعارفها، وتُبنى على بيانات محلية أصيلة، مع انفتاح واعٍ على المصدر المفتوح والشراكات، بما يضمن حضوراً عربياً فاعلاً في موجة الذكاء الاصطناعي العالمية دون ذوبان أو عزلة.




